الفاتيكان ليست دولة روحية تعمل في القداديس والبخور والتراتيل فحسب، بل إنه كمرجعية روحية عليا، يهتمّ بأخبار العالم وتطوّراته، ولهذا لا بدّ من أن قداسة البابا فرنسيس وأمين سر الدولة البابوية الكاردينال بييترو بارولين ووزير الخارجية المونسنيور جان بو غالاغر، كانوا قد قرأوا جيداً، عشية استقبالهم الرئيس ميشال عون، ذلك التقرير المؤلم لا بل الكارثي، الذي أعدّه معهد غالوب عن “الدول الأكثر سعادة في العالم”، والذي جاء فيه أن “لبنان الرسالة أكثر منه وطناً” كما سبق أن وصفه البابا يوحنا بولس الثاني، حلّ في أسفل قائمة دول العالم بعد أفغانستان، من حيث سعادة المواطن والفساد.

وهكذا وفي ظل هذا الواقع الكارثي والمآسي التي تعلك لبنان، ربما جاءت محادثات عون مع قداسة البابا على طريقة “قاديشات آلوهو”، وخصوصاً أن عون قال لدى وصوله الى الكرسيّ الرسولي “إن المسيحية في لبنان ليست في خطر، على ما يصرّ البعض على تصويره، وإنني أتطلع الى هذه الزيارة كبارقة أمل لنؤكّد من خلالها أن لبنان ليس بزائل”!


طبعاً هذا أمر جوهري يتمنّاه الفاتيكان كما يتمنّاه اللبنانيون، ولكن الواقع مغاير وكارثي وقد جعل من لبنان أشبه بجهنّم، يفرض على مواطنيه قواعد مختلفة وموجعة، دفعت مراجع كثيرة الى الحديث عن أن هذا البلد التاعس بات الآن يواجه موجة “الهجرة الثالثة”، التي جعلت الأمن العام اللبناني عاجزاً، في ظلّ تعثر موازنة الدولة المنهوبة والمسروقة على أيدي المنظومة السياسية التي تحمي الفساد كما قال عون قبل فترة، عن طباعة ما يكفي من آلاف جوازات السفر التي تلبّي طوابير المواطنين الراغبين في الهجرة والتي تقول الدراسات إنها تمثل نسبة ٧٧٪ من الشباب اللبناني، بما يعني عملياً هجرة المستقبل من بلد قتله الحاضر الفاسد والفاشل!

ماذا تركنا للبنان كي لا يزول عندما يقول البنك الدولي إننا سجّلنا أسوأ انهيار في التاريخ، وهذا أيضاً يعرفه الفاتيكان جيداً، وخصوصاً عندما يستمع قداسة البابا الى حديث عون مكملاً، “إن لبنان سيبقى رغم كل الصعاب وهي جسام، نموذجاً للعيش معاً وفق ما يصرّ عليه اللبنانيون جميعاً، وما من أحد قاتل الآخر بهدف تغيير مذهبه الديني أو إيمانه”، صحيح ولكن هناك من قاتل في الماضي ويقاتل اليوم لتغيير هويّة لبنان العربية، ويمضي لهذا في شلّ الدولة وسلطاتها والدليل في مسار السلطتين التنفيذية والقضائية.

ومن الضروري في المقابل، قراءة ما يقوله رأس الكنيسة المارونية البطريرك بشارة الراعي في القاهرة، متزامناً ومتناقضاً مع كلام عون في الفاتيكان، واضعاً يده على الجرح ومسمّياً الأشياء بأسمائها في مقابلته مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وقائلاً إنّ لبنان ليس على ما يرام، ومشدّداً على أولوية الحياد الإيجابي كمدخل لإنقاذ البلاد من جحيم الأزمة التي تعلكه، ومؤكداً أن سلاح “حزب الله” هو أحد أبرز مسبّبي العزلة الدولية والعربية التي يواجهها لبنان، داعياً الى ضرورة تعاون الخارج مع لبنان لإيجاد حلّ لهذه المعضلة الإقليمية.

وقد سبق أن حمل الراعي هذا الكلام الى الفاتيكان الذي يعرف جيداً، أن هناك مؤشرات عملية واقتصادية لا تطمئن كثيراً الى أن لبنان هو فعلاً بخير، ويكفي في السياق تقارير خبراء البنك الدولي، وقول أحدهم أخيراً إن لبنان يقف على حافة آخر فرصة قبل الانهيار الكامل!