خطوة إلى الخلف عمن يقتحمون الغمار، هي واحدة من أهم ملامح طبائع السياسة في الأردن. إنها خطوة المحترس الذي لا يريد أن يبدأ المجازفة. يتركها لمن هو أقدر من القوى الإقليمية الأخرى، ثم يخطو خطوته على إثرها.
الملك الراحل الحسين بن طلال هو الذي صنع هذه الخطوة، وصقلها لكي تتحول إلى أيقونة سياسية تميز الأردن. فلم يتخلف عمّن أراد أن يتقدم، ولا تحمّل عبء المبادرة الأول. ولقد تجسدت هذه الخطوة في كل علاقات الأردن التاريخية مع القوى الإقليمية في الجوار.
وهناك أسباب جديرة بالاعتبار هي التي حملت الأردن إلى الأخذ بها.
أولها، أنه يريد ما يريده الكبار، حسب مجريات كل ظرف أو منقلب، حربا كان أو سلما. ويرغب أن يحمل عزائمه على عزائمهم. فعندما كانت مصر تعد العدة للحرب، أعد الأردن عدته معها. وكسبها بينما فشل الآخرون. وعندما اختارت مصر السلام، اختاره بعدها. وهكذا ظل الحال دائما.
وثانيها، أنه في موقع جغرافي حساس. فالجوار الإسرائيلي، على حدود طويلة، يجعل منه هدفا لأيّ عدوان محتمل.
وثالثها، أن صراعه مع إسرائيل وجودي أكثر من صراع أيّ دولة عربية أخرى مع إسرائيل. من ناحية للنظرية الإسرائيلية القائلة إن “شرق النهر” هو فلسطين. ومن ناحية أخرى، لأنه يحتضن جالية فلسطينية هي الأكبر والأكثر اندماجا في نسيجه الاجتماعي، بل والسياسي أيضا. قبل أن ينحسر هذا الأخير بعد ما يُعرف في الخطاب اليساري الفلسطيني بـ”أيلول الأسود” عام 1970، عندما كانت الفصائل الفلسطينية تريد أن تستولي على السلطة لـ”تحرير الأردن” بدلا من تحرير فلسطين. وكان ذلك أول التعبير القائل إن “الطريق إلى القدس يبدأ من عمّان”، وهو التعبير الذي دلَّ الملتويةَ أعناقَهم إلى القول إن تحرير القدس يبدأ من بغداد، أو من دمشق أو طهران أو غيرها، متجاهلين أن تحرير القدس يبدأ من القدس.
ورابعها، أن موارد الأردن المحدودة لا تحتمل المغامرات، لا المحسوبة منها ولا غير المحسوبة.
كل هذا لا يغني عن حقيقة أن للأردن مكانة مركزية في المنطقة. بعض تلك الأسباب يعززها. ولكن يعززها سببٌ آخر لا يقل أهمية، هو أن ضعفه أو زعزعة استقراره يهددان استقرار المنطقة بأسرها، ويقلبان معادلات الحرب والسلام، ويخلطان كل الأوراق، مصفوفةً كانت أم مبعثرة.
استقرار الأردن، عنصر يتعين ألاّ يُمس، ولا يُهدد، ولا يُضعف، لأيّ سبب. كما يتعين ألاّ تؤكل أدواره، لا في العلاقة مع إسرائيل، ولا في البحث عن سبل تسوية القضية الفلسطينية.
كانت زيارة العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني إلى رام الله، عقب “قمة النقب” مباشرة، بمثابة تذكير لكل الأطراف التي شاركت في تلك القمة، بألاّ تتجاهل حقيقة أن مكانته في معادلات العلاقة مع إسرائيل، كوسيط أو حتى ناقل رسائل، يجب ألا تتغيّر، وإلا فإنه سوف يجد نفسه مضطرا إلى أن يحميها بوسائله، ليس حبا بالرئيس محمود عباس بالضرورة، ولكن حفظا لما يتعين المحافظة عليه.
تلك القمة، بحسب الاعتقاد الأردني، كان يجب أن تُعقد في عمّان، أو في العقبة. ثم قالت “قمة العقبة” بدورها ما قالت: هذا بلد يملك دورا مركزيا في المنطقة. لأنه يتوسطها، جغرافيا، ولأنه صانع سلام، ولأنه ممر لخطوط التجارة، ولأنه يحتاج إلى هذا الدور لحفظ استقراره الاقتصادي، وهو استقرار مُنهكٌ أصلا بسبب نقص الموارد، وفقر الجغرافيا وغنى المطالب الاجتماعية. وهذه الأخيرة تتفاقم.
خطوةُ المحترس لا تحتمل أيضا أن يبادر الأردن في أن ينطلق من سياسية أو مواقف ناتئة. ولا أن ينقدها. بالتأكيد لن يفعل إذا ما بدا أنها تتحول إلى اتجاه قد يتبعه هو في الخطوة التالية. ولكن ليس بالضرورة أن يقبلها إذا ما تجاهلت احتياجاته.
خسارة العراق، كانت بمثابة خسارة لسند، ما يزال ينتظر الأردن تعويضا له. دفاعيا، كان العراق حاضرا. ولكنه كان حاضرا اقتصاديا أكثر.
ولقد تراكمت الأزمات من حوله، ليس بسبب هيمنة الميليشيات الإيرانية على السلطة في العراق، ولكن أيضا بسبب الأزمة التي اندلعت في سوريا منذ العام 2011، ولم تهدأ، ثم من أزمة وباء كورونا، حتى ليجوز للفم أن يفغر كيف أن هذا البلد ظل قادرا على أن يصمد، وسط كل ما تراكم عليه من ضغوط، ورغم كل ما ظل ينعكس في مراياه من تبعات تلك الضغوط، بما فيها بروز تنظيم داعش.
ثمة علامة يجدر الالتفات لها في النظر إلى مكانة الأردن المركزية. فبالرغم من أن الميليشيات الإيرانية التي ظلت تحكم العراق منذ ما تلا العام 2003، لم تجد في الأردن ما يدفعها إلى دعمه، إلا أنها لم تجرؤ على معاداته. ثم لم تمض السنوات، إلا لتكتشف أنه جوارٌ ونافذة لا يمكن تجاوزهما. فاستأنفت القليل، قبل أن تشرع حكومة مصطفى الكاظمي في التأسيس إلى روابط أمتن. وهو ما كرسته من جديد قمة العقبة التي جمعت بين الملك عبدالله الثاني والرئيس عبدالفتاح السيسي وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي.
هذه القمة، بين قمم عراقية أردنية مصرية أخرى، عُقدت بشراكة إماراتية لافتة، لتقول للأردن إن دوره ومكانته محفوظان، ويمكن البناء عليهما لمستقبل الاستقرار في المنطقة.
الأردن بالنسبة إلى العراق جسر إلى مصر. وهو بالنسبة إلى مصر جسر إلى سوريا ولبنان، وهو بالنسبة إلى السعودية جسر أيضا إلى بلاد الشام. كما أنه بالنسبة إلى خطوط النفط والغاز جسر إلى العالم. بينما هو لنفسه جسر إلى فلسطين. فإذا شاءت إسرائيل أن تبني جسرا إلى كل هذا، فإنها لن تجد بديلا عن الأردن. على الأقل بسابقِ مؤشرٍ قال إن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو فشل في أن يصل إلى الإمارات، عندما قال الأردن إنه لن يمر، لأنه ظل ممتعضا من استعادة الأردن لسيادته على أراضيه في الغور.
المسؤوليات المناطة بالأردن في رعاية المقدسات الإسلامية في الأراضي الفلسطينية، ورقة أساسية لمستقبل الحلول السلمية. وهي ربما كانت الورقة الأهم إقليميا. ولقد حرص الأردن على تأكيدها، ليس لإغراء الدول العربية بدعمه بفضلها، ولكن لتأكيد كلمته الفصل مع إسرائيل نفسها.
الأردن يحسن أن يؤخذ بالاعتبار في رسم سياسات الاستقرار الإقليمي، وأن تُدعم مكانته، لأنه بخطوة المحترس، يقدم لهذه السياسات أفضل ما بوسعها أن تحققه.
لا يأخذ من أحد دورا رائدا، ولا يقتحم غمارا، قبل أن يبدأ باقتحامه القادرون. والقادرون غالبا ما يكونون أقدر على شأنهم به، وأضعف عليها من دونه.
التعليقات