«إن منتقدي العولمة القدامى الذين حذرونا من أنها ستنتهي بشكل سيئ يمرون بلحظة «لقد قلنا لكم». سبق أن صاحوا بأن: الحدود المفتوحة بين الدول، والتجارة الحرة، وسلاسل التوريد التي تعاني من ضغوط شديدة من شأنها أن تجعل العالم أكثر هشاشة، مما يجعل البلدان عرضة بشكل خطير للاضطرابات والصدمات. هذا ما كتبه البروفيسور إدوارد ألدن الذي يعقب أن هذا الأمر من تدهور العولمة «تطلب رئيسًا أمريكيًا حمائيًا، ووباءً عالمياً، وحربًا أوروبية جديدة لإثبات أنهم على حق.»

يوضح ألدن أنه لعقود من الزمان، تم تجاهل مثل هؤلاء النقاد لأن فوائد التكامل العالمي كانت مقنعة للحكومات والشركات الكبرى، بينما كانت الأصوات المعارضة مجرد كوابح طفيفة في التجارة الدولية والتنقل غير المقيدين، مثل وضع معايير العمل والبيئة للتجارة بين البلدان، وإقرار عمليات تفتيش أكثر صرامة على الحدود للأشخاص والسلع.

إلا أن ألدن يحذر من أن هناك مسارا مقلقا لتفكك العولمة، فبعد أن تراكمت الاضطرابات واحدًا تلو الآخر، ترسخ إجماع جديد في الاقتصادات المتقدمة في العالم بأنه حان الوقت للتراجع عن العولمة. مسار التوجه الجديد الآن هو السيطرة على الحدود بشكل أكثر إحكامًا، وبناء سلاسل إمداد مرنة، والسعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي في التكنولوجيات الدقيقة، وفرض عقوبات تجارية على الخصوم أو المنافسين بغض النظر عن قواعد التجارة العالمية. لكن إزالة العولمة لها قائمة طويلة من التكاليف الباهظة والمخاطر، من ارتفاع التضخم ونقص العمالة إلى عودة الحمائية للاقتصاد المحلي وصدمات النظام المالي العالمي. يقول ألدن: هناك حاجة إلى معارضة قوية لتسليط الضوء على هذه التكاليف ومساعدة الحكومات على التراجع عن مزيد من الإصدارات المتطرفة من تفكك العولمة.

إزالة العولمة أو تفكك العولمة (Deglobalization) هي عملية تقليل الاعتماد المتبادل والتكامل بين دول العالم، وهي تحدث في فترات تاريخية عندما تنخفض التجارة الاقتصادية والاستثمار بين البلدان، وسبق أن حدثت فترتان من تراجع العولمة، في الثلاثينيات خلال فترة الكساد الكبير وأوائل القرن الحادي والعشرين (2008) مع الأزمة المالية العالمية؛ فتراجع العولمة يمثل تفاعل الدول المتقدمة مع الأزمة المالية العالمية.

تفكك العولمة يؤثر ويتأثر أساساً في مجال الاقتصاد الدولي لكن له أبعاد اجتماعية وتكنولوجية وثقافية وسياسية.. على سبيل المثال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، ومن الأمثلة البارزة في الولايات المتحدة الأمريكية، ما وضعته إدارة بوش وأوباما من تحفيز بند Buy American Act الذي تم تصميمه لتفضيل السلع الأمريكية الصنع على السلع المتداولة. وبالمثل، فرض الاتحاد الأوروبي إعانات جديدة لحماية قطاعاتهم الزراعية.

أهم معايير تراجع العولمة تتمحور حول انخفاض التدفقات الاقتصادية بين الدول في أربعة مجالات رئيسية: السلع والخدمات، العمالة الوافدة، رأس المال (القيود المفروضة على الاستثمار الخارجي)، التكنولوجيا.. ويتضمن ذلك ارتفاع التعرفات الجمركية، وقيود الحدود بين الدول على العمال.

يُظهر مؤشر العولمة متعدد الأبعاد التابع لمعهد الاقتصاد السويسري KOF انفصالًا واضحًا عن العولمة الاقتصادية في عام 2009: «ارتفع مستوى العولمة في جميع أنحاء العالم بسرعة بين عامي 1990 و 2007 ولم يرتفع إلا بشكل طفيف منذ الركود العظيم عام 2008. في عام 2015، تراجعت العولمة لأول مرة منذ عام 1975. ويعزى الانخفاض إلى تراجع العولمة الاقتصادية، مع ركود العولمة الاجتماعية وزيادة العولمة السياسية بشكل طفيف.

انخفاض معدل النمو في التجارة الدولية يؤدي إلى ردود فعل سلبية على سياسة التجارة العالمية بمعنى أن تقليل التفاعل الدولي وانخفاض النمو سوف يحفز الحمائية وقد يتبعه انخفاض التعاون بين البلدان في مجالات غير اقتصادية وحتى زيادة مخاطر الصراع الدولي. وحسب المعهد الدولي للدراسات الاجتماعية (جامعة إيراسموس روتردام)، فإن الطبيعة المعقدة للاعتماد الاقتصادي المتبادل بين اقتصادات السوق المتقدمة تستبعد الحرب بالكامل تقريبًا، لكن المواقف العدائية الأخرى يمكن أن تستمر، بل وتنمو، في ضوء التطورات الأخيرة. وهذا يشمل صعود السياسة الشعبوية (Murshed mansoob, 2018).

رغم وجود معارضين للعولمة إلا أن الغالبية يرون أن العولمة (التبادل التجاري بين الدول واندماج الاقتصاديات) هي القاعدة الطبيعية للتجارة بين الدول شعوباً وحكومات منذ بدايات ظهور التجارة في الحضارة البشرية، وهي المعيار لتفسير الاقتصاد العالمي، فمنذ الثورة الصناعية منتصف القرن التاسع عشر والتبادل التجاري بين الدول يتزايد والعولمة تتنامى تدريجياً ولم تتراجع نسبياً إلا في فترات قصيرة لتعود للصعود.

منذ التسعينات، بدت العولمة قوة مندفعة لا تقهر ولا يمكن إيقافها وأصبح العالم والاقتصاد العالمي أكثر ترابطًا، لكن الموجة الشعبوية والسياسات الاقتصادية الحمائية والانعزالية وتداعيات وباء كورونا أظهرت كما لو أن العولمة هشة سيتم تجزئتها إلى مناطق اقتصادية أصغر وشبكات إنترنت داخلية. هناك من يؤكد أن ذلك مجرد عرقلة للعولمة التي ستمضي قدماً فتكاليف إلغائها باهظة وأقرب للمستحيلة. إلا أن ثمة من يرى أن العولمة وصلت إلى حدها الطبيعي وبلغت ذروتها، ومن غير المرجح أن تصبح تدفقات رأس المال أكثر عولمة، بالنظر إلى الإجراءات التي تم تنفيذها بعد الأزمة المالية لزيادة الاستقرار في النظام المالي العالمي.. وبالمحصلة يبدو أن العولمة تضعف لكن لن تتفكك.