للعلاقات الاستراتيجية بين الدول أُسس وأُصول ومبادئ لا يمكن تجاوزها أو التعدي عليها مهما كانت الأسباب والمُسببات والمُبررات، وهذا الذي يجعلها تختلف عن العلاقات الثنائية المعهودة في العمل الدولي بين معظم دول العالم. فأن ترتقي العلاقات لمرحلة الشراكة الاستراتيجية فذلك يعني أن كل دولة ترى في الدولة الأخرى المكانة الدولية المرموقة التي تمكنها من تحقيق مصالحها المتعددة والمتشعبة على جميع المستويات وفي كل الاتجاهات، وبأن كل دولة ترى في الدولة الأخرى الثقة الكبيرة والمصداقية الكاملة في التعاملات والمعاملات السياسية والاقتصادية والأمنية، وبأن كل دولة ترى في الدولة الأخرى القدرة الكبيرة على تنفيذ سياساتها وأهدافها وغاياتها بشكل مستقل ومن غير الحاجة للاعتماد على الدولة الأخرى، وبأن كل دولة ترى في الدولة الأخرى أنها تمتلك من الخصائص القومية والاستقرار السياسي الذي يمكنها من الاعتماد على نفسها ويعطيها القدرة الكبيرة للتأثير على المجتمع الدولي لتحقق الإيجابيات العظيمة من غير الوقوع بسلبيات كبيرة تؤثر على مستواها واستقرارها السياسي. فإذا أضفنا إلى هذه الأُسس والأُصول والمبادئ التي تقوم عليها العلاقات الاستراتيجية الإيمان بأُسس العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، والرغبة في المحافظة على الأمن والسلم والاستقرار، والتوجه نحو التنمية والتطوير والتحديث، والسعي لتحقيق الازدهار والرخاء والرفاه الذي يحقق رغبات الشعوب ويحفظ كرامة الإنسان، فإن العلاقات الاستراتيجية ستكون حتمية بين الدول التي تلتقي في هذه الأُسس والأُصول والمبادئ، وهذا الذي جعل من العلاقات بين الرياض وواشنطن ترتقي لتكون علاقات استراتيجية مُنذُ أن التقى الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في فبراير 1945م. وبما أن العلاقات ارتقت لتكون استراتيجية لِتَوفُر الأُسس والأُصول والمبادئ التي تجعلها كذلك، فإنها استمرت على هذا المستوى طيلة العقود الماضية لِتَوفُر نفس الأُسس والأُصول والمبادئ على الرغم من تغير شكل النظام والبنيان الدولي من متعدد القطبية إلى ثنائي القطبية إلى أحادي القطبية، وعلى الرغم من تغير الموازين الدولية بسقوط وصعود قوى عظمى، وعلى الرغم من تغير العوامل المُؤثرة في طبيعة وحركة السياسة الدولية. فإذا كانت الرياض وواشنطن على هذا القدر من العلاقات الاستراتيجية على مدى العقود المُمتدة الماضية، فما الآفاق الجديدة للشراكة الاستراتيجية التي يُمكن مُلاحظتها والإشارة إليها نتيجة قِمة جدة - يوليو 2022م - التي جمعت خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز - حفظهما الله -، مع رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جو بايدن؟

إن قِمة جدة - يوليو 2022م - أسست لآفاق جديدة من الشراكة الاستراتيجية بين الرياض وواشنطن حيث القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية، وتعزيز الأمن والسلم والاستقرار، ومكافحة التطرف ومحاربة الإرهاب، والمسائل التقنية والتكنولوجية والبيئية والمناخية والفضائية والأمن السيبراني، أصبحت هموماً مشتركة تستطيع الدولتان التنسيق والعمل سوياً لإنجازها بما يتماشى مع مكانتهما وتأثيرهما في الساحة الإقليمية والدولية والعالمية، وبما يحقق مصالح شعوبهما وشعوب العالم. نعم، إن قِمة جدة أخذت العلاقات الاستراتيجية لآفاق جديدة من التعاون والتنسيق والعمل بما يتوافق ويتماشى مع مكانة العاصمتين في المجتمع الدولي. فالرياض لم تعد تلك العاصمة التي تلعب أدواراً إقليمية فقط، وإنما تجاوز تأثيرها الإقليم لتكون عاصمة مؤثرة عالمياً في الكثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والعسكرية والصحية والتقنية والتكنولوجية والبيئية والمناخية وغيرها من القضايا التي تؤثر في حركة السياسة الدولية، وواشنطن لم تعد تلك العاصمة التي تتشارك إدارة السياسة الدولية مع أية عاصمة عالمية أخرى، وإنما أصبحت القطب الأوحد في الساحة الدولية مُنذُ بداية التسعينات من القرن العشرين. إن هذه المكانة الدولية والعالمية للعاصمتين تفرض عليهما الذهاب بعيداً نحو آفاق جديدة تُعزز علاقاتهما الاستراتيجية بما يتماشى وتطور المجتمع الدولي وقضاياه الجديدة والنوعية، ومتطلبات الشعوب.

لقد أضافت قمة جدة أبعاداً جديدة للعلاقات والشراكات الاستراتيجية بين الرياض وواشنطن. فبعد أن كان التعاون لتعزيز الأمن والسلم والاستقرار الإقليمي والدولي رُكناً أساسياً للعلاقات وحجر الزاوية للأمن الإقليمي على مدى العقود الماضية ويتشاركان الرؤية ذاتها ليسود الأمن والاستقرار والازدهار، أضيفت لتلك القضايا الرئيسة قضايا جديدة تمثلت بأهمية التأكيد على حل النزاعات الدولية بالطرق الدبلوماسية والسلمية، وتخفيف الأزمات الإنسانية عن طريق تقديم الدعم الاقتصادي والمالي لدول المنطقة الأكثر احتياجاً، وضرورة دعم حكومات المنطقة التي تواجه خطر الإرهاب والإرهابيين. وبعد أن كان التعاون في المجالات الاقتصادية والاستثمارية والمحافظة على استقرار أسواق الطاقة العالمية أمراً قائماً بين الدولتين على مدى العقود الماضية، أُضيفت لتلك القضايا الرئيسة قضايا المناخ وانتقال الطاقة والبيئة وتعزيز الطاقة النظيفة والتعامل مع تحديات المناخ والتركيز بشكل خاص على مصادر الطاقة المتجددة والهيدروجين النظيف وبناء القدرات البشرية والتعاون في الجوانب التنظيمية في المجال النووي وفي مجال التقاط الكربون واستخدامه وتخزينه وتطوير المواد المستدامة وغيرها من المبادرات في إطار الاقتصاد الدائري للكربون. وبالإضافة لهذه القضايا الرئيسة أضافت قِمة جدة - يوليو 2022م - للشراكة الاستراتيجية بين الرياض وواشنطن قضايا جديدة منها الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار، والتعاون في مجال تقنيات الجيل الخامس والسادس وشبكة الراديو المفتوحة، والتعاون المشترك في مجال الأمن السِيبراني لحماية المصالح الأساسية لكلا البلدين وأمنهما الوطني، والاستمرار في تعزيز التبادل الفوري للمعلومات، وبناء القدرات البشرية والفنية، وتطوير صناعات الأمن السيبراني، وتعزيز التعاون في جميع مجالات استكشافات الفضاء بما فيها رحلات رواد الفضاء ورصد كوكب الأرض.

وفي الختام من الأهمية القول إن قمة جدة - يوليو 2022م - أسست لحقبة جديدة من العلاقات الاستراتيجية بين الرياض وواشنطن لتُضيف للشراكات الاستراتيجية التاريخية شراكات استراتيجية حديثة وعصرية ومتطورة في العديد من المجالات التقنية والتكنولوجية والفضائية والبيئية والمناخ والأمن السيبراني وغيرها من مجالات تُواكب مُتطلبات واحتياجات القرن الحادي والعشرين وما يشهده من ثورة علمية وصناعية لم يشهدها التاريخ من قبل. لقد انتصرت قمة جدة - يوليو 2022م - للأُسس والأُصول والمبادئ التي قامت عليها العلاقات الاستراتيجية بين الرياض وواشنطن، كما أضافت لتلك الأسس والأصول والمبادئ المزيد من القيم السّامية لتُؤكد بذلك على عُمق ومتانة وصلابة الشراكة الاستراتيجية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية.