قبل أيام، أرسلت الرياض للولايات المتحدة، عبر بيان صادر عن الخارجية السعودية، رسالة شديدة اللهجة ترفض فيها بشدة اعتبار قرار «أوبك بلس» بمثابة انحياز في صراعات دولية. كما شدد البيان على أن القرار اتخذ بالإجماع، ومن منظور اقتصادي، يراعي توازن العرض والطلب في الأسواق، ويحد من التقلبات، والأهم أنه كشف جلياً من يستخدم النفط كأداة سياسية، ومن يلتزم بحماية مصالح المنتجين والمستهلكين، قبل أي مصالح سياسية ممكنة، وبقية القصة معروفة عندما انقلب السحر على الساحر.
السعودية، ودول أخرى، أوضحت - ولا تزال - للإدارة الأميركية الحالية أهمية العلاقات والمصالح المشتركة، وأن المملكة العربية السعودية لا يمكن أن تستخدم الملفات الاقتصادية كأوراق سياسية، أو أن تكون مع طرف لترجيح حظوظ الطرف الآخر، فالرياض تهتم بعلاقاتها مع واشنطن بشكل كلي، وتولي اهتماماً كبيراً لها، لكن لا يمكن أن يكون ذلك على حساب المصالح السعودية. المملكة بيّنت وجهة نظرها بلغة مباشرة وبلا مواربة، وقد فعلت الصواب بموقفها العقلاني، تجاه طلب تأجيل خفض إنتاج النفط، أولاً للأسباب الاقتصادية المعروفة، وثانياً لكون أن ذلك الطلب كان فخاً سياسياً تجاوزته المملكة بحكمة وقوة وبلا مجاملة.
المسكوت عنه، ويجب أن يكون في أولويات النقاش، هو الهجوم الأميركي الدائم والمتواصل على الأسعار النفطية، ليغطي على استغلالهم وممارساتهم غير المستقرة في أسواق الغاز، وهو الأمر الذي فضحه أحد أهم حلفائهم، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عندما قال: «سنقول لأصدقائنا الأميركيين والنرويجيين، بروح الصداقة العظيمة؛ أنتم رائعون، (لأنكم) تزودوننا بالطاقة والغاز، لكنْ هناك شيء واحد لا يمكن أن يستمر لفترة طويلة، وهو أن ندفع 4 أضعاف السعر الذي تقومون بالبيع به للصناعة لديكم... ذلك ليس المعنى الدقيق للصداقة».
دعوني أخبركم عن تسلسل القصة، وهو أمر معروف ومنشور، لكنه متناثر ومتشعب، لذلك جمعته لتوضيح حقيقة ما يحدث، وما لا يريد الديمقراطيون أن يقولوه بوضوح... على الأقل من وجهة نظري الصحافية.
قبل كل شيء، الموضوع بالرغم أنه اقتصادي بحت، فإن أساسه سياسي، فبعد أن حرّكت إدارة بايدن ملف المناخ ليصبح أولوية لها؛ صارت جميع دول الغرب تهتم بشكل مبالغ فيه ويتحدثون بشغف عن الأمر، ما أدى إلى تبعات متراكمة، أفضت إلى إيقاف الاستثمار في النفط الصخري، حتى إن دولة مثل بريطانيا أوقفت الاستثمارات البترولية مثلاً، قبل أن تتراجع مؤخراً. ومع موجة الحماس لملف المناخ، قررت الدول «صاحبة الموارد الأخرى مثل الغاز والفحم» الرجوع إليها، ومع ذلك لا أحد يطرحه كما يطرح موضوع النفط، وهنا كانت اللعبة الإعلامية الخفية... وهو أحد أسباب عودة بريطانيا بقوة للفحم وأميركا للغاز، رغم أن الفحم تحديداً سيئ للبيئة، بل أسوأ من النفط.
بتنسيق الأعضاء في «أوبك بلس» نجحت السوق البترولية في المحافظة على الاتزان، وهي السلعة الوحيدة التي لم ترتفع بشكل كبير، والأسعار مستقرة وواضحة، مع التذكير دائماً بأن خلف النفط منظومة تقوده بكل نجاح واقتدار (أوبك بلس) من أي هزات أو كوارث تؤثر على الاقتصاد العالمي، وبالفعل استطاعت منح التوازن والاستقرار للأسواق بشكل كبير، مقابل غياب أي منظومة مماثلة للغاز والفحم، على سبيل المثال، وهو ما أدى إلى تضاعف أسعارها بشكل لا يصدق، وبالطبع هنا لا أحد يضع أصبعه على الجرح.
في التخفيض الأخير قبل عامين تقريباً، قام الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، شخصياً بالتواصل مع الرئيس المكسيكي من أجل تخفيض حصة بلاده، والوصول إلى اتفاق عام واجتماع في «أوبك بلس»، وكان الهدف هو حماية مصالح أميركا.
السؤال هنا؛ لماذا أسعار الغاز والفحم مرتفعة للغاية؟ الإجابة المباشرة؛ بسبب نقص الإمدادات، بالإضافة للأزمة الروسية - الأوكرانية. الشق الأول لا تريد أن تعترف به الإدارة الأميركية، لتستغل الشق الآخر من الأسباب.
الذي يجب أن نتذكره دائماً هو أنه تم تسييس البترول لأنه سوق ناجح. رغم أن «أوبك» تعمل دائماً على حماية مصالح المستهلكين والمنتجين معاً، وكذلك حماية الاستثمارات وموازنة العرض بما يتماشى مع أساسيات السوق والحفاظ على توازن يخدم المنتج، لكي يستمر في طاقة إنتاجية، ويخدم المستهلك في توازن السعر، وعدم تذبذبه، وهو ما أكد عليه وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان بقوله إن «أوبك بلس» ملتزمة بمصالح المنتجين والمستهلكين، وإنها ستواصل الإيفاء بالتزاماتها تجاه الأسواق، مضيفاً أن مجموعة «أوبك بلس» ستبقى قوة أساسية لضمان استقرار الاقتصاد العالمي، وأن ما تقوم به ضروري لكل الدول المصدرة للنفط، بما في ذلك غير الأعضاء في التحالف.
أسعار النفط، بكل ما تحمل من لغط، تظل شيئاً مؤقتاً. الشيء الثابت هو السعودية، وسيادة التوجه، واستقلالية القرار، وهو ما رأيناه واضحاً في بيان الرياض الشديد. والأهم... ما لا يعرفه كثيرون، أن ما يحدث في ملف النفط ليس إلا واحداً من أشياء كثيرة، ومواقف سياسية عدة لا تذكر غالباً للعوام.
في النهاية، مثل كل مرة، تثبت السعودية أنها تتحمل وحدها ما لا يمكن أن يتحمله غيرها من الخصوم، من هجوم واتهامات مزيفة، رغم موقفها السليم 100 في المائة.
- آخر تحديث :
التعليقات