لا يختلف بنو البشر على أن لكل حرب من الحروب التي نشبت بين الدول على مر التاريخ دوافعها، وعلى أن الحروب إلى جانب الاستعمار وكل النتائج المترتبة عنهما، كانا السبب في سحب المجتمعات إلى الوراء بعيدًا عن عملية البناء والتطوير التي تشهدها مجتمعات الدول الرأسمالية في الغرب والشرق، وأنهما نشرا الشقاء وخلفا الألم في قلوب الناس وصنعا هذا البون الشاسع بين المجتمعات الرأسمالية ومجتمعات الدول النامية والدول التي بالكاد تكون نامية، ولا خلاف بين بني البشر في أن السلام هو الركيزة الأساسية للبناء والتطوير وصناعة الرخاء، وهو الباعث على السعادة والأمل بمستقبل مزهر، وكلما توافر السلام في المجتمعات وساد فيها الأمن، كانت فرص التنمية والتقدم أفضل. وعلى الرغم من كل هذه الحقائق البديهية فإن الحروب أحيانا، رغم مكابداتها وما تخلفه من مرارات، تكون مفروضة على الدول فرضًا تضطر معه هذه الدول إلى الدفاع عن وجودها لتغدو هذه الحروب شرًا لابد منه. ولعل العملية العسكرية التي أرادتها روسيا في أوكرانيا محدودة تُصنف ضمن هذه الحروب، بل إنها من الحروب التي فرضتها دول بعينها على روسيا فرضًا حتى أنه لم يكن لها مهرب من السقوط في مستنقعها، فأمريكا وشركاؤها في حلف الناتو بناء على حسابات استراتيجية، وفي لعبتهم المحبذة القائمة على إضعاف الدول التي قد تهدد سطوة هذا الحلف وهيمنة قائدته الولايات المتحدة الأمريكية على العالم بالدولار المفروض على الجميع في التجارة الدولية وشركاتها العملاقة وسيطرتها على القرارات السياسية والعسكرية والاقتصادية لأكثر دول العالم، أبَوْا إلا أن يذهب ضحية لهذه الحرب المفتعلة الآلاف من الضحايا وأن يتشرد بسببها الملايين، وها هي ذي أمريكا تهدد في كل يوم بقيام حرب عالمية ثالثة تستخدم فيها كل الأنواع من الأسلحة المحرمة وهو الأمر الذي يضع البشرية جميعها فوق صفيح ساخن. ولعل المرء هنا يتساءل ما الذي تسعى له دول الغرب وحلف الناتو من خلال إغراقهم أوكرانيا بهذا الكم الرهيب من السلاح والمال، وما هي مبررات كل هذا الدعم غير المسبوق لدولة من خارج حلف الناتو ومن خارج الاتحاد الأوروبي، إذا لم يكن استنزاف روسيا وهزيمتها لتعزز أمريكا من هيمنتها على العالم وتبقي هذه الهيمنة لمدة أطول؟

هناك دول كثيرة تعرضت لعدوان خارجي وما كان من شعوبها وحكوماتها إلا أن تصدت لهذا العدوان، ومنها على سبيل المثال، عدوان إيران والحوثيين على المملكة العربية السعودية، ولنُذكِّر في هذا الإطار أنها الحليف الاستراتيجي التاريخي للولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك لم نرَ أي نوع من الدعم لدفاع السعودية عن حياضها، فأين ما قدمته أمريكا لأوكرانيا مما يُفترض أن تُقدمه للسعودية ولم تفعل؟! ولنذكِّر أيضا أن أوكرانيا لا تشكل بالنسبة إلى أمريكا ومصالحا الموقع الجغرافي الاستراتيجي المشابه لموقع الخليج العربي، فلا وجه للمقارنة بين أهمية المملكة العربية السعودية والخليج العربي من جهة وأوكرانيا من جهة ثانية، فاقتصاديًا تُعد منطقة الخليج العربي شريان حياة لاستمرار المصانع في مشارق الأرض ومغاربها في عملها ولتدفق مختلف السلع في العالم.

وها هم الحوثيون مدعومون من إيران لا يتوقفون عن تهديد الأمن والسلام في المملكة العربية السعودية بالصواريخ البالستية والمسيرات التي سبق وأن قصفت منشآت نفطية لتسبب أضرارًا لوحظت آثارها سريعا في الأسواق العالمية، ومع ذلك لم تحرك أمريكا ساكنًا لا في بيتها الأبيض ولا في بنتاغونها. وها هي الأخبار تُتداول عن معلومات استخباراتية حول خطط إيرانية لمهاجمة السعودية بغية صرف الأنظار عن حرائق السخط الشعبي التي تجاح مدنها إثر مقتل مهسا أميني، ومع ذلك لم تنبس أمريكا ببنت شفة، وها هي الفوضى ومسلسلات العدوان على الأراضي العراقية مستمرة بعدما جاءتها أمريكا لتزرع بقوة السلاح نظامًا مشوهًا من مساوئه المعلنة ميليشيات طائفية مدعومة من إيران تصول في العراق تخريبًا ونهبًا وتفتيتًا لدولة مُفتتة منذ أسقطت أمريكا نظام صدام حسين، ومع ذلك لم تُحرك أمريكا ساكنًا رغم التطبيل الإعلامي عن عداء معلن لإيران ونظامها الثيوقراطي الذي ينتهك وبشكل مستمر الأراضي العراقية بالصواريخ البالستية والمسيرات قصفًا واستهدافًا سافرًا لشمال العراق الكردستاني.

فأين موقف الولايات المتحدة من أمن السعودية والعراق؟ وأين هذا الموقف المفقود من دعم سخي موجود لأوكرانيا في حربها ضد روسيا؟

لا شك أن الحروب تخلف المآسي لا محالة، فمن هو ذاك غليظ القلب الذي لا يدميه القصف المتواصل على المدن الأوكرانية ومشاهد المواطنين وهم يلوذون بالفرار من الموت، أو قطع الكهرباء عن الملايين من البشر وتركهم يواجهون البرد والصقيع عزلاً تحت أنظار وأسماع زيلنسكي، الرئيس الذي لا أعتقد أن التاريخ سينسى له استسهاله إزهاق أرواح الأوكرانيين. أما الحرب على أوكرانيا وتهجير شعبها فأنا متأكد بأن ليس لها من مؤيد وإنما التأييد هنا لموقف روسيا التي تدافع عن أمنها وحدودها، دفاعًا وصفه الروس أنفسهم بدفاع من أجل وجود روسيا نفسها ككيان.

من خلال ما تقدم نود القول إن أمريكا في علاقاتها بالشعوب والحكومات تتحرك من منطلق مصلحة أمريكية صرفة، وليس على قاعدة المصالح المشتركة، ومصلحتها في أوكرانا اليوم هي القضاء على القوة الروسية لتتفرغ لمواجهة الصين منفردة، أما بالنسبة إلى إيران في منطقتنا العربية فعلينا الاعتماد على إمكانياتنا الذاتية لوقف عدوانها المتكرر، وقديمًا قالت العرب: ما حك جلدك مثل ظفرك!