كامل التلمساني مخرج مصري لكن انشغالاته بالفكر والفلسفة والكتابة الصحفية والفنون التشكيلية طغت على صفته كمخرج ومؤلف وسيناريست سينمائي، بل إن تلك الانشغالات جعلته متوترا ثائرا على الأوضاع العامة سريع الغضب ومنقادا للإصلاح الاجتماعي، خصوصا بعد أن تبنى الأفكار التروتسكية الماركسية. ويبدو أن كل ذلك كان حصيلة اطلاعه وقراءاته باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية في المذاهب والأفكار كافة، ناهيك عن تعرفه إلى مجموعة الفنانين الذين عرفوا باسم فناني الطليعة من أمثال جورج حنين ورمسيس يونان وفؤاد كامل ممن أسسوا فيما بعد «جماعة الفن والحرية» وأصدروا البيانات النارية ضد النازية والفاشية.

ولد التلمساني بقرية «نوى» في محافظة القليوبية في 15 مايو 1915، وبعد أن أنهى تعليمه الأساسي بمدارس القليوبية، هاجر مع أسرته إلى القاهرة، وتنقل بين أحياء «لقلعـة» و«الجـيزة» و«العباسية». وفي القاهرة التحق بكلية الطب البيطري في جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا)، لكنه تركها وهو في السنة النهائية بسبب شغفه الشديد بالرسم والتصوير منذ الصغر، إذ راح منذ عام 1933 وعلى مدى عشر سنوات، يجوب المدن والقرى ويرسم اللوحات من واقع حياة الفقراء والمهمشين والطبقات الكادحة من مواطنيه، ويقيم المعارض الفنية الناجحة، ويعمل في الوقت نفسه ناقدا فنيا في الصحافة وكاتبا ثقافيا يبشر بالإصلاح ويدعو إلى العدالة الاجتماعية. ولما تيقن أن محاولاته للتغيير والإصلاح من خلال الصحافة ومعارض الفن التشكيلي غير مجدية، تبنى فكرة التغيير من خلال السينما باعتبارها وسيلة توجيه جماهيرية كاسحة، فدخل عالمها الواسع في عام 1943 من خلال الالتحاق باستوديو مصر، حيث بدأ مشواره السـينمائي بالعمـل مساعدا في الإخراج والمونتاج والإنتاج. قبل أن يصبح مخرجا ويسجل اسمه ضمن الجيل الثاني من مخرجي السينما المصرية إلى جانب كمال سليم وأحمد كامل مرسي وأحمد بدرخان، وهو الجيل الذي يعزى إليه إرساء الاتجاه الواقعي في السينما المصرية قبل الحرب العالمية الثانية.

وصفه صديقه المخرج أحمد كامل مرسي بالشخصية غريبة الأطوار، عصبية المزاج، حادة الطبع، المليئة بالمتناقضات، المتوقـدة الذكاء، القـوية المنطق. وقال عنه الدكتور لويس عوض إنه «كان نهما في القراءة ويتمتع بثقافة عالية في مجال الفن السينمائي خاصة وفي كل الفنون بصفة عامة»، وكتب عنه الناقد والسيناريست مصطفى محرم في كتابه «عندما شاهدت الأفلام» مقرا بأن مقالاته كانت تتسم بسعة الإدراك وعلو الذوق والتطرق إلى أشياء كثيرة بشكل جيد ومتميز بالعمق، لكنه كمخرج كان يقدم فنا متواضعا وأفلاما كارثية كما في فيلمه الأول والأهم وهو «السوق السوداء» الذي أخرجه وكتب قصته بنفسه سنة 1945 من بطولة عماد حمدي وعقيلة راتب وزكي رستم وعبدالفتاح القصري.

وضع محرم في كتابه النص الآتي: «عندما عرض فيلم (السوق السوداء) لأول مرة في عام 1945، هاج الجمهور وماج وطالب باسترداد نقوده وهو يصيح مطلقا المقولة المشهورة: (سينما أونطة.. هاتوا فلوسنا). أجمع الجمهور والنقاد في ذلك الوقت على أن الفيلم لقي فشلا ذريعا، حتى أن مخرجه الشاب في ذلك الوقت كامل التلمساني أصيب بصدمة بالغة أفقدته الثقة في نفسه وابتعد عن الإخراج، بل ابتعد عن السينما نفسها فترة من الوقت إلى أن زالت آثار الصدمة عن نفسه وتهيأ للعمل مرة أخرى وقدم للسينما أفلاما أحبطت الجمهور والنقاد وهي كالآتي: البريمو (1947)، شمشون الجبار (1948)، البوسطجي (1948)، كيد النساء (1950)، أنا وحبيبي (1953)، الأستاذ شرف (1954)، مدرسة البنات (1955)، موعد مع إبليس (1955)، الناس اللي تحت (1960)، وفي النهاية أدرك الرجل أن لا مكان له في ميدان السينما المصرية فترك مصر وهاجر إلى لبنان حتى قال عنه البعض أنه (أراح واستراح)».

وهكذا رحل التلمساني إلى لبنان، بعد أن قدم عشرة أعمال للسينما المصرية، حيث بدأ هناك حياة جديدة، واستطاع بعد معاناة أن يصنع له مكانا في الأوساط الفنية اللبنانية، تجلى في قيامه بالكتابة للإذاعة والتلفزيون اللبناني ولمحطة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، وفي عمله مستشارا دراميا لمنتجي السينما، وارتباطه بفيروز والرحابنة معدا للنصوص ومنسقا لأعمالهم ومشروعاتهم المسرحية والسينمائية، إلى أن توفي في بيروت في الثالث من مارس عام 1972، وهو في السابعة والخمسين من عمره، دون أن ينهي رواية كان قد شرع في كتابتها بعنوان «أم محمد».

والتلمساني، الذي آمن بأن الفن العظيم هو الفن الذي ينبع من الجماهير، والفن الرديء هو الذي يصدر عن أعداء التقدم، ضمّن هذه الأفكار وغيرها من المواقف الثورية في كتابين صدرا له هما «سفير أمريكا بالألوان الطبيعية» سنة 1957، والذي شن فيه هجوما لاذعا على الأمريكان وهوليوود، ثم كتاب «عزيزي شارلي» سنة 1958 الذي خاطب فيه الممثل العبقري شارلي شابلن. كما ساهم برسوماته وصوره في مجلة «مجلتي» التي كان يصدرها أحمد الصاوي محمد، وتعرف على سلامة موسى وعمل معه في «المجلة الجديدة»، وقام بتحرير باب «خلف الكاميرا» في مجلة السينما سنة 1945 بُعيد انجاز فيلمه الأول «السوق السوداء».

ومما تردد كثيرا أنه هو الذي أخرج في عام 1946 فيلم «الماضي المجهول» من بطولة أحمد سالم وليلى مراد، لكنه نسب الإخراج لصديقه وتوأمه الفنان أحمد سالم مدير ستوديو مصر آنذاك، بناء على طلب الأخير.