حظيت وسائل التواصل الاجتماعي وتحديدا منصة «تويتر» بالتفاعل الكبير، من قبل شرائح متعددة من المهتمين باللغة العربية وشؤونها إثر الظهور التلفزيوني الثري للبرفيسور حمزة قبلان المزيني أستاذ اللغة واللسانيات، عبر البرنامج الشهير «في الصورة» مع الإعلامي المتميز عبدالله المديفر وتحديدًا حول رأيه الجريء بعدم تميز اللغة العربية عن غيرها من حيث البناء، ومهما حاول أهلها تفضيلها عن سواها، يظل مرد ذلك جوانب عاطفية تختص بأهلها ولا يعني أفضليتها على ما سواها، والحقيقة أنني أقف دائما من طرح البرفيسور المزيني وقفة التلميذ القديم الذي تتلمذ على يديه «علم اللغة العام» و»فقه اللغة» إبان دراستي في جامعة الملك سعود، وأدين له بالفضل الكبير في التعامل مع اللغة بوعي، أو على الأقل إدراك أهمية ذلك، وبالتالي آمنت بأطروحاته دائما بضرورة التعلّم، على أنني أود أن آخذ من هذه اللحظة المكتظّة باللغة وشؤونها ما بين مؤيد ومعارض لطرحه لأشير إلى جوانب مهمة تتعلق بتعاملنا مع لغتنا اليوم. فلا يكفي أن نؤمن بأفضليتها إن كنا ندّعيه، دون العمل بموجبه، كما أن كونها ليست أفضل اللغات لا يعني أن نزهد فيها ونتركها تتهاوى شيئا فشيئا فنحن أمة.. تراثنا لغة.. وتاريخنا لغة.. بل حتى ديننا لغة..

فـ«القرآن معجز بنظمه لا بأحكامه» كما يقول عبدالقاهر الجرجاني، وفي الوقت الذي استطاعت فيه الأمم الأخرى توثيق موروثها بالتماثيل المنتشرة في كل الثقافات، كان وجودها فينا محرّماً! وبالتالي اكتفينا بمروياتنا الكلامية، حيث تخلّق موروثنا كله داخل رحم اللغة وتولّد منها، وباتت اللغة ملازمة للثقافة، حتى على المستوى الشعبي.. لا تكتمل صورة المثقف لدينا إذا قصر في لغته، بل إن مراحل كثيرة من مراحل تاريخنا الحضاري اكتفت باللغة والأدب كصورة نمطية للمثقف فينا، وهذا ما أوهمنا غالبا بأفضليتها المطلقة على ما سواها.. واليوم إما أن نستدرك لغتنا المهدرة نتيجة وحشتها وتغرّبها في هذا العصر، أو نستثمر مخزونها التاريخي على مستوى المكان على الأقل، فنمنح عين الجواء في منطقة القصيم مثلاً هويّة ثقافية تعود بها إلى أسطورة عنترة، ونفعل في مناطقنا الأثرية الأخرى ما يحيل المكان للزمان واللغة للتجسيد، والحقيقة أنني مثل غيري أدرك هشاشة اللغة مع تعاقب الأزمان واختلال موازين قيمتها وحضورها من عصر لعصر نتيجة حضارة أمتها. وبالتالي أعلم أن هذا العصر ليس كسابقه من عصور الحضارة العربية، نتيجة انصرافنا عن العربية الفصحى كلغة.. حتى بدت أحياناً لغة ثانوية عند أبنائنا، إلا أن هذا الاستسلام يجب أن يواكبه فعل وثائقي مخلص.. يستخلص من هذه اللغة موروثاً غير قابل للسفه أو التشكيك.

فالحديث عن ليلى العامرية اليوم على سبيل المثال يختلف جوهريًّا عن الحديث عن «جولييت» على الرغم من تشابه الحكايتين بينهما، والسبب يعود إلى تشخيص الحكاية، فشرفة جولييت مزار للسياح، والصور الملتقطة لها ومعها باتت غاية تشدّ إليها الرحال، وبلادنا اليوم تفتح ذراعيها للعالم، وهي بلاد مكتنزة جداً بموروث عظيم، وما علينا إلا أن نخلّصه من ضعف اللغة بتجسيده، من جهة ونعيد للغة حضورها وحيوتها من خلاله.