جاءت آخر الانهيارات اللبنانية لتضرب القضاء ولتقضي على ما تبقى من عصب في هذا القطاع. لم يعد الأمر يقتصر على انهيارات مالية تشعلها الارتفاعات الجنونية في سعر صرف الدولار أمام الليرة، ولا السياسية والأمنية، ولا غياب معالم الدولة وانهيار مؤسساتها، بل إن ما يحصل هو تفكك البنية اللبنانية كلها والتي تترك تداعيات على الكيان وأخطاراً على وحدته مع التصدع الذي نشهده على أكثر من صعيد.

فتح اتفجار مرفأ بيروت في 4 آب (أغسطس) 2020 كل الجروحات اللبنانية. هو ليس انفجاراً يشبه سلسلة الانفجارات الخطرة التي عصفت بلبنان، وغيرت بعض معالمه. فتداعياته المستمرة وتطوراتها المتسارعة على الأرض خصوصاً بعد عودة المحقق العدلي طارق البيطار فجّرت القضاء وتنذر في الوقت نفسه بانفجار أهلي وشيك بدفع من الانهيارات المتتالية والتصدعات الاجتماعية والانقسامات السياسية وتمسك الطبقة الحاكمة بمصالحها ومحاصصاتها في السلطة. والانفجار الأهلي الذي بدأت بوادره تظهر على الأرض ليس على شاكلة انتفاضة اللبنانيين في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 ولا بحراك شعبي في وجه الطبقة السياسية، إنما بسريان الفوضى التي تهدد كل البناء الاجتماعي والمؤسساتي في البلد. ولا يبدو أن الأطراف المتحكمة في الوضع اللبناني قادرة على قطع الطريق أمام هذه الفوضى في الشارع، بل إنها تساهم باستعصاءاتها في إدخال البلاد والدولة في نفق مظلم، يحمل أخطاراً على البنية السياسية والاجتماعية والتوازنات الطائفية ويفكك ما تبقى من مؤسسات جامعة أو قادرة على وقف الانهيار.

يكاد انفجار مرفأ بيروت وما حل بالقضاء اللبناني بعد الحملة التي استهدفت المحقق العدلي طارق البيطار والتصدعات في الدولة أن تطيح بالصيغة لا بل بالكيان الذي بات معرضاً للتفكك. فمنذ أن تم تعيين القاضي طارق البيطار محققاً عدلياً خلفاً للقاضي فادي صوان، ووجه بحملات لعزله ودفعه إلى التنحي عن مهمته، وإن كان البعض يأخذ على البيطار تجاوزه تحديد المسؤوليات عن التفجير أو المتسببين به، وأخيراً عودته وفق اجتهاد قانوني اكتشفه متأخراً بعد 13 شهراً من كفّ يده عن التحقيق. القطع مع التحقيق لأكثر من سنة أثّر على القرار الاتهامي المرتقب أن يصدره القاضي البيطار، لكنه لن يكون شفافاً لو تمكن من الاستمرار في العمل لكشف حقيقة انفجار المرفأ، فيما التساؤلات الكبرى تُطرح حول قرارات المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات الذي أطلق سراح كل الموقوفين في قضية انفجار المرفأ وادعى على البيطار معتبراً أن يده لا تزال مكفوفة، وما إذا كانت هناك أهداف تقف وراءها جهات سياسية لمنع التحقيق من الوصول إلى خواتيمه.

تمكنت الطبقة السياسية اللبنانية خصوصاً التحالف الحاكم فيها، من تجاوز تحميلها المسؤوليات عما حدث في البلد، ومن بينها انفجار المرفأ، وهي أيضاً كانت تخطت غضب اللبنانيين في انتفاضة 17 تشرين، لكنها لم تقم بأي إجراءات توقف الانهيار، فاستمر الصراع بين أجنحتها على المغانم والمحاصصة. وصل الأمر إلى القضاء، وإن كان صراعه لا يحدث للمرة الأولى وقرارات بعض قضاته التي تخدم أجندات سياسية للطبقة الحاكمة جربها اللبنانيون في فترات سابقة، خصوصاً في عام 2004، حين كانت الوصاية السورية لا تزال تقرر في كل القضايا، لكن ما يحدث اليوم قضائياً في الصراع بين مدعي عام التمييز والمحقق العدلي يثبت أن التصدع بلغ ذروته والانهيار لا يقف عند حدود، ما يطرح احتمالات إعادة هيكلة هذه السلطة. ولا بد من التذكير في هذه الحالة التي يقف البلد كله عاجزاً أمامها حين يتخذ المحقق العدلي قرارات لا يتم تنفيذها، أن القاضي نفسه شُنت عليه حملة سياسية كبرى لتنحيته حين قاطع "حزب الله" وحليفته "حركة أمل" أو ما اصطلح على تسميته "الثنائي الشيعي" جلسات مجلس الوزراء حتى تنحية البيطار، إضافة إلى حوادث الطيونة التي كادت تفجر لبنان على خلفية الموقف من تحقيقات المرفأ. وللعلم أن "حزب الله" هدد البيطار علناً في قصر العدل ولم يخرج مسؤوله الأمني وفيق صفا إلا بالوعيد ضد القاضي الذي أجبر على الانكفاء لمدة تجاوزت السنة ما عطل تحقيقات انفجار المرفأ ويكاد أن يضّيع الحقيقة في شأنه.

كل ما يحصل يؤشر إلى وجود محاولات من الطبقة الحاكمة لتعطيل التحقيقات نهائياً ووضع الملف في أدراج النسيان. قد يكون القاضي البيطار وقع في فخ مراهنات على دعم خارجي بعد إدراج الوفد القضائي الأوروبي انفجار المرفأ في تحقيقاته، لكن المرجح أن العودة الصاخبة للبيطار أثارت الغالبية ضده والتي تكتلت لمنعه من استكمال تحقيقاته بالطريقة التي استأنفها. الثابت في هذا الإطار أن القوى التي منعت أن يكون هناك تحقيق دولي في انفجار المرفأ بصرف النظر عن الاهتمام الدولي بذلك بعد الانفجار مباشرة، خصوصاً أن الوفود الدولية التي زارت لبنان بعد الانفجار ومنها جمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لممثلي القوى السياسية والطائفية منح الطبقة السياسية جرعة أوكسجين لتتجاوز مشكلاتها على حساب البلد.

لكن ما يجري في الحقيقة هو نتاج طبيعي للانهيار. فمنع الوصول الى الحقيقة في انفجار المرفأ هو جزء من ممارسات الطبقة الحاكمة ومصالحها المتعددة التي ترفض إجراء أي إصلاحات سياسية ومالية واقتصادية، وتقف أمام إنجاز الاستحقاقات الدستورية، وتستثمر في الفراغ. وعلى هذا ثمة من يعتقد أننا دخلنا في نفق التفكك، فما يحدث بين الداخل والخارج لا يعني أنه سباق لبلورة حل. فالقوى الداخلية وإن كانت تراهن على معطيات خارجية أو رافعة تدفع الأمور نحو التسوية، إلا أنها لا توفر وعاءً لاستيعابها. والانقسامات اللبنانية بلغت حدوداً لم يعد ممكناً معها التوصل الى تسوية أقله في المدى المنظور، وهو ما يدفع الداخل الى الانفجار. والمشهد خير دليل على الأخطار التي تحدق بالبلد، إذ إن التوتر السياسي والطائفي بلغ أشده مع الخلاف حول هوية لبنان وتركيبته وطبيعة نظامه المقبل.

ومع تغييب الحقيقة تُطلق الرصاصة الأخيرة على ما تبقى من نبض في البلاد، وكأن هناك من يريد أن تذهب إلى الانهيار الشامل والكامل، خصوصاً أن الخارج لا يبدو أنه يهتم بما يجري، أو أقله لم يعد يهتم بالوضع اللبناني كما كان في 2005 أو 2008 أو حتى في 2015 عندما عُقدت التسوية على إيصال ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية.

وفي صراع القضاء توظف الطبقة الحاكمة والممسكة بزمام الأمور ومعها قوى متحكمة بالأمر الواقع، المعركة الحاصلة في الاستثمار السياسي بهدف فرض وقائع جديدة وموازين قوى تحدد مسار أي تسوية مقبلة. ووفق المؤشرات يبدو أننا مقبلون على أيام خطرة وانفجارات أهلية وفوضى قد تؤدي في نهايتها إلى تسوية على أنقاض البلد. وإلى أن تحين تلك اللحظة سننتظر وقتاً طويلاً ومسارات متعرجة لإنهاء الفراغ والشغور الرئاسي، فالتسوية تحتاج لتنازلات داخلية هي غير متوافرة الآن، كي تلاقي الحل الخارجي للأزمة اللبنانية. والوقائع تؤكد استمرار التصلب في المواقف وأن البحث في التسوية ليس جدياً في انتظار تبلور معادلات أخرى خارجية، ولذا تدفع الأزمات البلد إلى مزيد من الغرق في الفوضى وصولاً إلى الانهيار الشامل، وتُدفن معه الحقيقة في انفجار المرفأ...