أصوات عالية - شعبية وفكرية ونخبوية - عبَّرت عن رغبتها برؤية نظام دولي جديد غير النظام الدولي أحادي القطبية القائم مُنذ 1991م بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وهذه الأصوات العالية تزداد علواً وارتفاعاً، وتتكاثر أعدادها، وتتوزع مناطق تواجدها، كلما مضت السُنون ومرت الأعوام ولم يتغير أو يتبدل شكل النظام الدولي الراهن تحت الهيمنة الأميركية المُطلقة. نعم، هكذا هو الحال القائم في المجتمع الدولي، أصوات ترغب في رؤية نظام عالمي جديد، وأصوات تتطلع لتغير شكل النظام الدولي الراهن، وأصوات تطالب صراحة بضرورة تغيير بِنية النظام العالمي المُعاش، وهذه الرغبات والتطلعات والمطالب المتصاعدة يوماً بعد يوم حافزها الرئيس في ذلك رغبتها في الانطلاق في الفضاءات السياسية الإقليمية والدولية بعيداً عن القيود السياسية الصعبة التي تفرضها الولايات المتحدة، أو تطلعها لتحقيق أهدافها وغاياتها السياسية والاستراتيجية المتشعبة والمتعددة والمتنوعة بعيدة المدى في المناطق والاقاليم والفضاءات التي تتواجد فيها الولايات المتحدة، أو مطالبها بأن تعزز قدراتها وتبني إمكاناتها بما يُمكنُها بعيداً عن القيود السياسية والعقوبات الدولية التي تفرضها الولايات المتحدة سواءً بشكل أحادي أو بقيادتها وتأثيرها المباشر على الأمم المتحدة والمنظمات الدولية. فإذا بنينا على هذه المنطلقات الواقعية التي تعبر عنها الأصوات العالية المنتشرة في مناطق وأقاليم العالم، فإننا نصل لنتيجة رئيسة تتمثل في رغبة هذه الأصوات العالية التي استطاعت التأثير على غيرها ممن ليس له حضور مباشر ببنية النظام الدولي، بتغييب الولايات المتحدة عن التأثير المُباشر في السياسة الدولية والعالمية في أسرع وقت مُمكن. إلا أن هذه الرغبة التي أجمعت عليها تلك الأصوات العالية الموزعة على المجتمع الدولي تختلف في أهدافها وتتنوع في غاياتها بين دول تسعى للتأثير في السياسية الدولية والحلول محل الولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، وبين دول تتطلع للتأثير في السياسية الإقليمية حال انسحاب الولايات المتحدة وتراجع مكانتها العالمية، وبين مجتمعات تتطلع للانعتاق من تأثير السياسة الأميركية لتمارس سياساتها بحرية بعيداً عن القيود والشروط الأميركية، وبين مجتمعات وشعوب كارهة للممارسات والسلوكيات والسياسات الأميركية غايتها رؤية الولايات المتحدة دولة مفككة ومنهارة وفي مرتبة دُنيا في السياسة الدولية. نعم، هذه هي الصورة الظاهرة والمُشاهدة على مدى الثلاثة عقود الماضية، والطاغية مُنذُ بداية 2022م. فإذا كان هذا هو الواقع، فهل يمكن أن تتحقق تلك الرغبات المُتصاعدة والموزعة على أقاليم المجتمع الدولي برؤية نظام دولي جديد غير النظام الدولي أحادي القطبية الأميركية؟ أم أن هذا النظام الدولي الراهن - أحادي القطبية الأميركية - سوف يستمر كما هو مُشاهد لعقود قادمة؟ أم أننا سوف نشهد نظاماً دولياً جديداً لم يعهده المجتمع الدولي من قبل سواءً في شكله أو في بنيانه؟

إذا أنزلنا هذه التساؤلات المركبة والمُعقدة منزلتها الطبيعية الهادفة لتفسير السياسة الدولية تفسيراً صلباً يقود بشكل مباشر لتنبؤات قريبة للمنطق ومساعدة على فهم الواقع وتوقع المستقبل، فإنه يجب علينا التفكير بحكمة وعقلانية وعمق فكري لنتمكن من الحصول على إجابات رشيدة بعيدة تماماً عن العاطفة التي بطبيعتها مُوصلة لنتائج سلبية ومُدمرة. وهذا التفكير الحكيم والعقلاني والعميق يُبنى على الحقائق المعلومة والمعلنة التي تبين قدرات وإمكانات الدول والمجتمعات، بالإضافة للخصائص القومية الظاهرة والكامنة التي تتميز بها وتمتلكها تلك الدول والمجتمعات. إذاً نحن أمام معايير يمكن ملاحظتها وتطبيقها وقياسها واختبارها على أرض الواقع بشكل دقيق، ولسنا أمام رغبات ذاتية، وتطلعات شخصية، مُستمدة في أساسها من تعارض التوجهات الفكرية والأيديولوجية، وتناقض المصالح والمنافع الدولية، وصراع الحضارات والثقافات والهويات والعرقيات، إذاً كيف نجيب عن تلك التساؤلات المتعلقة بشكل وبنيان النظام الدولي؟

إن الإجابة عن تلك التساؤلات ينطلق من رؤيتنا لواقع وحقيقة النظام الدولي كما هو، ولواقع وحقيقة المجتمع الدولي كما هو، ولواقع وحقيقة السياسة الدولية كما هي. فالنظام الدولي هو نظام أُحادي القطبية تُهمين عليه الولايات المتحدة مُنذُ 1991م، وليس نِظاماً ثنائي القطبية أو نظاماً مُتعدد الأقطاب. والمجتمع الدولي يتشكل من دولة عُظمى وحيدة مُهيمنة تماماً على مجريات السياسة الدولية، ومن دولتين كُبريين - روسيا والصين - تأتيان بالمستوى الثاني في السياسة الدولية، ومن دول كُبرى مُتقدمة وصناعية ونووية غالبها في الغرب وواحدة في الشرق تأتي في المرتبة الثالثة في السياسة الدولية، ومن قوى إقليمية متوسطة القوة والقدرات والإمكانات موزعة بحسب توزيع أقاليم المجتمع الدولي، ومن دول صغيرة وصُغرى محدودة أو ضعيفة الإمكانات والقدرات تتشكل من غالبية دول العالم. والسياسة الدولية في حركتها وتفاعلاتها ومجرياتها تتأثر تأثراً مُباشرة بالتوجهات والمُمارسات والسُلوكيات السياسية للولايات المتحدة الأميركية التي تتواجد سياسياً في جميع مناطق وأقاليم العالم، وتنتشر قواتها وقواعدها العسكرية في جميع مناطق العالم، وتتقدم وتتفوق اقتصادياً وعلمياً وتقنياً وتكنولوجياً على جميع دول العالم. هكذا هي حقيقة وواقع وشكل وبنيان النظام العالمي، وهرمية أو تراتبية المجتمع الدولي، والهيمنة على السياسة الدولية حيث تتصدر الولايات المتحدة المشهد العالمي على جميع المستويات، وهذه الصدارة الأميركية المتقدمة للمشهد العالمي تُواصل تقدمها وتفوقها وإبداعاتها في جميع المجالات وعلى كل المستويات، ولم تتوقف لحظة واحدة بحسب الأرقام المُعلنة لتضمن لنفسها هيمنة مُطلقة على السياسة العالمية، وقيادة للسياسة الدولية لعقود قادمة لا تنافسها فيها أية قوة أو قِوى دولية أخرى. إذاً الحقيقة والواقع المُعاش يقول إن مصدر تفوق وتقدم وهيمنة الولايات المتحدة على السياسة العالمية ما زال قائماً ويُعمل على استمراره ومواصلة إبداعاته. فإذا أضفنا إلى هذه الحقيقة والواقع، الأبعاد السياسية والاستراتيجية التي تعمل عليها الولايات المتحدة بدايةً من العام 2023م فإننا نصل للنتيجة القائلة إن الهيمنة الأميركية سوف تستمر، إلا أن هرمية أو تراتبية النظام الدولي سوف تتغير قليلاً. إن الأصوات العالية التي تطالب بتغيير شكل النظام الدولي دفعت الولايات المتحدة للتفكير جدياً بتغير تركيبة النظام الدولي عند مستواه الثاني، خاصة بعد تصاعد الأصوات القائلة بتقاسم النفوذ العالمي مع الصين تحديداً، ومع روسيا كذلك بعد حربها مع أوكرانيا. عند هذه النقطة، رأت الولايات المتحدة أن بقاءها متقدمة ومتفوقة يتطلب إبقاء منافسيها مشغولين في مناطقهم وأقاليمهم، مع حرصها على استنزاف قدراتهم وإمكاناتهم لإبقائهم بعيدين تماماً عن منافستها خلال العقود القادمة، متطلبات هذه الرؤية الأميركية تقوم على إشغال أقرب المنافسين لها بمنافسين إقليمين آخرين يملكون الخبرة والكفاءة والقدرة على التقدم والتطور السريع والنوعي. وظهرت هذه النتيجة عندما أعلنت اليابان وألمانيا بدعم وتأييد ومساندة أمريكية بداية حقبة جديدة لصناعاتهم العسكرية بعد توقف دام لخمسة وسبعين عاماً. هذه المعايير والمتغيرات تجعل من شكل النظام العالمي الجديد واضحاً بحيث يكون نظاماً دولياً أحادي القطبية تهيمن عليه الولايات المتحدة، ونظاماً مُتعدد الأقطاب بين أربعة إلى سبعة قوى دولية كُبرى في مستواه الثاني، ونظاماً أحادي القطبية إلى ثنائي القطبية في بعض أقاليم ومناطق العالم. فإذا تحققت هذه الرؤية الأميركية نكون أمام شكل جديد للنظام الدولي لم يشهده التاريخ من قبل بحيث تتعزز القطبية الأحادية عن طريق صراع القوى الكُبرى عند المستوى الثاني من الهرمية الدولية.

وفي الختام من الأهمية القول إن المجتمع الدولي أمام مرحلة تاريخية مُهمة من مراحل السياسة الدولية وإعادة تشكل النظام العالمي بحيث تتطلب من المُجتمعات تفكيراً عميقاً لتعظم منافعها، وتضاعف مكاسبها، وتحقق مصالحها، وفي نفس الوقت تتجنب الخسائر المُكلفة والسلبيات المُدمرة. نعم، إن دقة الحسابات تبدأ من معرفة مصدر الأصوات العالية المطالبة بتغيير بٍنية وشكل النظام الدولي، وتتطلب معرفة أهدافها المرحلية، وغاياتها النهائية، لتتمكن المجتمعات من تأييدها إن كان التأييد يُعزز المكاسب والأرباح، أو معارضتها إن كانت المُعارضة تُجنبها الخسائر العظيمة.