«العلمانية»، وهي عنوان أزماتنا الراهنة، هي استمرار لأزمات عنقودية متواترة منذ زمن قديم. وما تزال هذه الكلمة حتى اليوم باباً مقفلاً بسبب الترجمة الخاطئة التي أسست لكثير مما هو خاطئ في تفسيرات هذا المصطلح، لينتهي بأن يكون في المخيال الجمعي العربي رديفاً للكفر ومناهضة الدين الإسلامي ومحاربته! وهو تفسير تبنته طائفة من رجال الدين في العالم العربي الإسلامي، وبعوامل تعرية فكرية إقصائية مستمرة تبنته الموسوعة العربية العالمية الصادرة قبل أعوام، حيث عرفت العلمانية أنها «تيار إلحادي»! والأنكى أن مناهضي الدين والتدين عموماً على اختلاف مستوياتهم رسخوا فكرة أن العلمانية هي مفهوم مناهض للدين الإسلامي تحديداً، وذلك عبر تبنِّيهم المصطلحَ في معاركهم «المتطرفة» هي أيضاً ضد الدين، فظلموا المفهومَ ووضعوه في غير موضعه، وحملوه لقباً لهم يسبق أسماءهم!
جاءت العلمانية ابتداءً ترجمة مضللة لكلمة (Secularism)، ومعناها الحقيقي «دنيوية». وظرف نشأتها التاريخي في سياقه الصحيح يجعلها في معنى «العامّة» أو «الشّعب»، وبشكل أدقّ، تأتي المفردة عكس الإكليروس أو الطّبقة الدّينيّة الحاكمة التي كانت -عبر الكنيسة في روما- تتدخل بل وتسيطر بالمطلق على كل شؤون حياة الفرد بكل تفاصيلها بالتحالف مع السلطة السياسية. وانطلقت الكلمة اصطلاحاً ينادي بحكم الناس لأنفسهم في شؤون معيشتهم، من دون إلغاء الدين، لكن وضعه في مكانه الصحيح والطبيعي.
بمعنى أنها جاءت كمنهجية لإدارة شؤون الحياة وليست معتقداً أو رأس حربة نقيض لأي معتقد!
ومن الطبيعي والحال كذلك، وكما قاوم الإكليروس الديني في أوروبا العلمانيةَ التي سحبت بساطَ السلطة الدنيوية وحكمَ العامة من تحت أرجلهم، أن يحاربها أيضاً رجال الكهنوت الإسلامي في العالم العربي، وقد حملوا لقب «علماء». والحرب هنا قد تكون أكثر شراسةً وحدّةً لوجود قواعد «شرعية» يحتمي بها علماء تخول لهم هدر دم من يخالفهم بمنطق شرعي اسمه «الردة». ولعل أوضح مثال على ذلك ما هو منشور على أحد المواقع الإلكترونية يديره شيخ سلفي، في تعريفه للعلمانية بأنها «مذهب جديد، وحركة فاسدة تهدف إلى فصل الدين عن الدولة، والانكباب على الدنيا، والانشغال بشهواتها وملذاتها، وجعلها هي الهدف الوحيد في هذه الحياة، ونسيان الدار الآخرة والغفلة عنها، وعدم الالتفات إلى الأعمال الأخروية أو الاهتمام بها..». ويضيف شيخ الموقع ومشرفه: «العلمانيون هدفهم جمع الدنيا والتلذذ بالشهوات ولو محرمة ولو منعت من الواجبات».
والقارئ لكلام أعلاه هنا لا يطالع تعريفاً «مزاجياً» وحسب، بل فتوى مبطنة بالحكم على كل من ينادي بالعلمانية، دون حتى التحقق من صحة ما ورد من تفسير «خاطئ»، بالردة.
طبعاً، لا تكتفي الثقافة المتطرفة بهذا القدر، بل تردف بسيل من الفقه «الشرعي» الذي يقوده «علماؤهم» بتغريب وإقصاء كل من لا يتبع «ملتهم»، والملة هنا ضاقت أكثر مما تحتمل الآية القرآنية نفسها، ويصبح كل خارج عن دائرة مرسومة بخط الطباشير خارجاً عن الملة ومرتداً عن الإسلام، وهذا ما شكّل حجرَ الأساس لأزمات العالم العربي بمشرقه ومغربه معاً.
العلمانية هي ببساطة الوقوف على مساحة واحدة من كل المعتقدات الدينية لمواطني الدولة الواحدة، وهي ليست معتقداً بحد ذاته في مواجهة أي عقيدة أو دين.