القرن الحادي والعشرون يمثل مرحلة تحول غير مسبوقة في التزاحم الخشن جيواستراتيجياً بين الأقطاب خصوصاً بقبولها لانتقال خطوط المواجهة لشمال وأقصى شرق الكرة الأرضية. وتعد الأزمة الأوكرانية ابلغ صور ذلك التزاحم منذ نهاية الحرب الباردة. فخلال تلك الحقبة وصولاً لمطلع القرن الجديد، كان جنوب الكرة الأرضية هو المسرح المتوافق عليه لممارسة التزاحم الخشن وبكل الأدوات بين تلك الأقطاب لتدني مستوى الكلفة السياسية لا الأخلاقية.
أتى التحول في ملامح وأدوات التزاحم الجيواستراتيجي بعد إعلان الولايات المتحدة حربها على الإرهاب (اعتداءات التاسع من سبتمبر2001) وقناعة الأخيرة بضرورة تخليق استراتيجية جديدة قائمة على «ضرورة» إعادة تشكيل وصياغة الجغرافيا السياسية ضمن مناطق نفوذها الخالصة والمشتركة مع باقي الأقطاب.

إلا أن الأزمة الأوكرانية مع تطور أدواتها المتاحة ومن ضمنها الذكاء الصناعي، باتت حالة خاصة من الانفلات اللاعقلاني في إدارة التزاحم وصولاً للتهديد الجاد بتوظيف الخيار النووي، ودخول أطراف أخرى على خطوط الأزمة مثل إيران وإسرائيل بشكل مباشر وغير مباشر. ففي حين دخلت طهران على خط الأزمة بشكل مباشر عبر تزويد الحليف الروسي بمنظومات قتالية، نجد إسرائيل تلجأ لعمليات داخل إيران بدوافع تبيض موقفها السياسي نتيجة شبه عزلة حكومة الائتلاف بقيادة نتنياهو الجديدة دولياً وإقليميا، ودون اكتراث لارتدادات مثل ذلك على حالة الاستقرار الإقليمي الهش.

العودة لعقلنة أدوات التزاحم تفرضها المسؤولية الدولية المشتركة وأول الخطوات الممكنة تجاه ذلك هي البدء في بناء الثقة من خلال أطراف تمتلك رصيداً من الموثوقية والمصداقية (رصيد دبلوماسي Diplomatic Capital)، وتمثيلها مصالح استراتيجية مشتركة لجميع أطراف النزاع.
إلا أن حدوث مثل ذلك يستلزم وصول جميع أطراف النزاع في أوكرانيا باستحالة الحسم العسكري وعبثية فرضية الوصول لحالة الاستنزاف التام للخصم. والى حين حدوث مثل ذلك سوف يتوجب إقناع أو اقتناع الأطراف بضرورة وقف العمليات العسكرية ولو نسبياً أو من طرف واحد بوقف عمليات قصف المدن والتجمعات المدنية.
على الجانب الآخر (ونحن هنا لا نناقش الموقف الأخلاقي) فإن التواتر التصعيدي قد يفرض واقعه الخاص عبر تضافر عناصر خاصة لدى أحد طرفي الأزمة مما قد يقود لتحول في الموقف السياسي وطنياً، أو اختبار أقصى حالات حد الهاوية (التوظيف الفعلي لسلاح نووي تكتيكي).

ومع استبعاد حدوث مثل ذلك، فإن الجانب الروسي هو الأقرب لدخول حالة الإنهاك (الإعياء) العسكري قبل بدأ عمليات الحسم العسكري مطلع الربيع القادم. لذلك نجدنا أمام تصاعد في نبرة التهديد الروسي بالرد بكل الخيارات العسكرية المتاحة في الدفاع عن النفس (استهداف شبه جزيرة القرم لما تمثله معنويا وسياسيا بالنسبة لموسكو).
تجاوز عتبة أقصى الخيارات المتاحة «عسكرياً» يواجه برفض أوروبا لخيار الرد بالمثل، وقد يمثل ذلك الموقف أهم الرسائل الاستراتيجية، وكذلك رد موسكو بالتلميح بأن كل الاحتمالات قابلة للنقاش إلا أنها لا تتضمن عودة شبه جزيرة القرم. فهل ستكون القرم ملتقى لتوافق جميع الأطراف للخروج من الأزمة، والخيار الأقل كلفة لكييف. ذلك ما سوف تجيبنا عليه التطورات في المواقف السياسية بين الآن وموعد اكتمال كل التحضيرات لمعركة الحسم في الربيع، إلا أن إطلاق كييف سراح 60 من الجنود الأسرى لديها يعد بادرة يجب الاستثمار فيها من قبل الجميع.