كانت الهزة الأرضية التي ضربت تركيا وسوريا مروّعة على كل المستويات، ولكن في غمرة الحديث عنها وعن آثارها والهبة الدولية لنجدة تركيا ومعها سوريا في جزءيها، التابع للنظام في دمشق، أو التابع لفصائل المعارضة التي تدعمها تركيا في الشمال، قد تكون الكارثة التي أصابت تركيا محطة مهمة في المسار السياسي الذي سيتخذه الرئيس رجب طيب أردوغان الذي سيخوض في الرابع عشر من شهر أيار - مايو المقبل انتخابات تشريعية ورئاسية في الوقت عينه، يتواجه خلالهما مع تكتل من أحزاب معارضة متحالفة في ما بينها، في محاولة إما لتغيير الغالبية في البرلمان التركي أو لإسقاط أردوغان نفسه في الانتخابات الرئاسية.

الانتخابات التشريعية والرئاسية متلازمتان من الناحية العملية، إذ إن الناخبين الذين يتوجهون إلى صناديق الاقتراع يربطون بين التصويت لحزب "العدالة والتنمية" في البرلمان وللرئيس الحالي أردوغان الذي يقود الحزب المذكور من الناحية العملية.
إذاً، وجهة الاقتراع واحدة، لكن في صندوقتين منفصلتين. ويواجه أردوغان في الفترة الأخيرة معارضة متزايدة، أكان داخل البرلمان أم في صفوف النخب التركية العلمانية التي ترى أنه يدفع بتركيا يوماً بعد يوم نحو نوع من الأوتوقراطية في السلطة مستندة إلى الدين، فيما يبتعد شيئاً فشيئاً من النظام الديموقراطي، والأهم من العلمانية الأتاتوركية الموروثة عن مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك.

لكن الرئيس التركي يفضل أن ينسب مساره السياسي، وهو الأطول عهداً بين من تعاقبوا على الحكم في تركيا منذ زوال السلطنة العثمانية عام 1920، إلى مزيج من الإرثين، العثماني والأتاتوركي، مع توجه لإعادة الاعتبار إلى الجذور الإسلامية للدولة التركية، بما يعني أن أردوغان الذي يسميه الإعلام الغربي "السلطان" بخلفية انتقادية، يميل إلى الاستناد أكثر إلى الإرث العثماني التوسعي منه إلى الإرث الأتاتوركي الانكفائي. لكن هذا الميل لا يكفي أردوغان كي يتنصل من إرث مؤسس الجمهورية التركية الحديثة، كون شرائح واسعة من المجتمع ما زالت متمسكة إلى حد بعيد بهذا الإرث، لا سيما بالعلمانية التي كان الجيش التركي قبل محاولة الانقلاب الفاشلة في الخامس عشر من تموز - يوليو 2016 ضمانتها الأساسية.

بيد أن عمليات "التطهير" في الجيش وقوى الأمن التي قام بها أردوغان في أعقاب محاولة الانقلاب، أضعفت كثيراً مراكز القوى داخل المؤسسة العسكرية المتمسكة بالإرث الأتاتوركي، لا بل إنها أضعفت معها مراكز القوى التي كان الغرب، لا سيما الولايات المتحدة، يستند إليها داخل المؤسسة، ولعل هذا ما يفسر تراجع حضور الجيش في خلفية الحياة السياسية وضعف السلطة العسكرية في معادلة التوازن مع سلطة الرئيس أردوغان الذي يتولى السلطة بصلاحيات جرى تعزيزها بعد تعديل الدستور وتحويل النظام إلى رئاسي.

تشكل مرحلة ما بعد كارثة هزة الأرض تحدياً كبيراً لأردوغان الذي يعاني اليوم من نقاط ضعف كبيرة، وهو على مقربة من موعد الانتخابات. فقد تراجع حزبه المتأثر بطغيان صورته على كل ما عداه في "حزب التنمية والعدالة" في الانتخابات الأخيرة، وفي انتخابات المجالس البلدية الأخيرة خسر مدناً رئيسية أهمها "جوهرة التاج" التركي إسطنبول وغيرها، ثم بدأ الاقتصاد التركي الذي يعد من أهم اقتصادات العالم مسيرة التراجع، ومعه العملة الوطنية، فيما ارتفع التضخم إلى مستويات عالية جداً، وفي الخلفية ازدياد الهوة في علاقات تركيا مع الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، وتراجع العلاقة مع عدد من الدول العربية الرئيسية.

وإذا كنا نتوقف عند كارثة الهزة الأرضية التي ضربت تركيا محاولين ربطها بالاستحقاق الانتخابي المقبل في تركيا، فمرد ذلك إلى أن أردوغان سيكون أمام اختبار كبير يطال سلطته وأداءه في ما يتعلق بطريقة مواجهة نتائج الهزة الكارثية، إن على الصعيد الإنساني أو على الصعيد الإغاثي المادي. وسيكون الرئيس التركي أمام اختبار داخلي دقيق، وخارجي قاس، إذ ستحسب له وعليه كل خطوة يقوم بها أو إجراء يتخذه في هذه المرحلة القريبة جداً من الانتخابات. فهو محط الأنظار داخلياً كون عدد أعدائه في ازدياد، وفي الخارج كون الممتعضين من سياساته الشديدة التقلب كثراً، لا سيما على خلفية الحرب الروسية على أوكرانيا التي يحاول فيها الرئيس التركي دفع مناورته السياسية إلى أبعد الحدود، ما قد يعرضه في نهاية المطاف أكثر مما كان عندما انقلب على سياسة "صفر مشاكل" مع الخارج، ليغرق في مسلسل لا نهاية له من النزاعات والصراعات في كل اتجاه، وها هو اليوم يعود إلى سياسة "صفر مشاكل"، مع ذلك فإنه لم يستعد صداقاته السابقة، أما الصداقات التي بناها كتلك التي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فتبقى صداقة بين جارين انتهازيين يمقتان بعضهما بعضاً.

في مطلق الأحوال، سيكون الرئيس رجب طيب أردوغان في أيار على موعد مع أصعب استحقاق انتخابي يواجهه، وخصوصاً أن التحديات السياسية والاقتصادية التي يواجهها لا تسقط أحزاباً أو رؤساء فحسب بل تسقط جبالاً.