أمام جاسم البديوي الأمين العام الجديد لمجلس التعاون العديد من الملفات المهمة التي تنصبّ في مسارات العمل الخليجي المشترك وتقويته نحو المزيد من التقارب والتلاحم والتنسيق والتعاون بما يسمو به إلى مستوى الاتحاد الفعَّال استجابةً لتطلعات شعوبه المؤمنة بأن مصالحها وأمنها واستقرارها لا يمكن أن تتحقَّق إلا بالتماسك والاتحاد.

فالأمين العام القادم من واشنطن تدَّرج في أروقة وزارة الخارجية الكويتية، التي هي من أهم الوزارات السياسية في المنطقة، والتي قادها لعقود المغفور له صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الصباح، وكان لها دور مشهود في التعاون مع البحرين حديثة الاستقلال عام 1971م عندما وضع النظم والقوانين الدبلوماسية والإدارية وتدريب دبلوماسيي وزارة الخارجية في المعهد الدبلوماسي والالتحاق ببعثات وسفارات الكويت في الخارج، نظرًا للعلاقة الحميمة التي جمعت صاحب السمو الشيخ صباح وأخاه سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة الممثِّل الخاص لصاحب الجلالة الملك المعظَّم حاليًا ووزير الخارجية في تلك الفترة المبكرة من استقلال البحرين.

وإثر ذلك تشرَّب الأمين العام جاسم البديوي من فكر سمو الشيخ صباح الأحمد، الدبلوماسي المحنَّك، فليست غريبة عليه أجواء العمل الدبلوماسي، فهو يتمتَّع بخبرة دبلوماسية كبيرة ومرَّ بالعديد من المحطات المهمة قبل أن يصل إلى المحطة الأهم في حياته الدبلوماسية خاصة وهو يتعامل اليوم مع قادة ست دول وستة وزراء خارجية، تجمعهم التطلعات الواحدة، إلا أنهم يختلفون في الرؤى فيما يتعلَّق بعلاقات بلدانهم بالدول المحيطة بهم إقليميًا كإيران والعراق واليمن وسوريا وفلسطين وغزة والدول الكبرى وأهمها الولايات المتحدة التي لها نفوذ ومصالح في منطقة الخليج العربي ويهمها المحافظة عليها، كما لديها استراتيجية جديدة في التعامل مع دول مجلس التعاون انطلاقًا من ملفات حقوق الإنسان وحماية حرية الرأي والتعبير والديمقراطية والمشاركة الشعبية في الحكم.

تلك كانت صورة عامة ومختصرة جدًا لحال دول مجلس التعاون وعلاقة معالي الأمين الجديد وكل الأمناء السابقين الذين مرّوا بالرياض، غير أن الأمين العام الحالي أمامه قضايا غاية في الأهمية والحساسية ويتطلَّب منه دراستها والتوصّل إلى حلول لها تُرضي كل الأطراف بما يعزِّز مسيرة مجلس التعاون نحو مزيد من العمل الخليجي المشترك والمواطنة الخليجية المتكاملة للوصول إلى الهدف الأسمى وهو قيام الاتحاد بين دول مجلس التعاون كما نصَّت عليه المادة الرابعة من النظام الأساسي للمجلس.

فبعد أن وجدت الدول الست بأنه لا مفرَّ لها من تجنّب تهديدات جيرانها (إيران والعراق) إلا بإنشاء مجلس التعاون ليكون الحصن الحصين لها من أيّ تهديدات أو اعتداءات، وجدت نفسها وجه لوجه أمام هاتين القوتين بعد انكشاف الغطاء الأمني البريطاني عنها التي انسحبت إلى شرق السويس عام 1968م.

لذلك كان من أهم ما واجه القيادات الشابة لمجلس التعاون بعد (اتفاق العُلا) في (يناير 2021م) هو مستقبل مجلس التعاون وقدرته على الصمود بعد أن تجاوز العديد من الأزمات التي كان أخطرها الأزمة الخليجية في (يونيو 2017م).

لكن هل انتهت الأزمات التي تواجه المجلس فعلًا؟ وهو الذي يُعتبر الكيان العربي الناجح الوحيد في هذه المنطقة المضطربة والعالم المتغيّر، تساؤل يُعيدنا إلى الوراء وقراءة التاريخ الذي مرَّ بمجلس التعاون بواقعية لمجريات الأحداث والتطورات وتحديد أبرز التحديات التي واجهته وانعكاسات أزماته وتداعياتها وتقاطع ذلك كلّه مع المستقبل بعد أن اختلفت أهداف الدول الصديقة صاحبة المصالح في المنطقة.

فبعد أن تأسس مجلس التعاون في (مايو 1981م)، كان التصوّر بأنه مجلس تشكَّل من أجل مواجهة التهديدات المحيطة به خاصة بعد نشوب الحرب العراقية الإيرانية، إلا أنه بعد فترة وجيزة من التأسيس طرح نفسه ككيان سياسي واقتصادي وعسكري بعد توقيع قادته لعدد من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية والأمنية والعسكرية، وأصبحت له مواقف سياسية تجاه العديد من القضايا الإقليمية والدولية.

لذلك فإن السؤال المطروح بعد مضي أكثر من أربعة عقود على قيام المجلس، ما هي أهدافه الفعلية؟ هل هو تحالف عسكري كحلف شمال الأطلسي (الناتو)؟ أم أنه تجمعٌ اقتصادي تجاري اجتماعي كوضع دول جنوب شرق آسيا (الآسيان)؟ أم أنه مجموعة سياسية واقتصادية كالاتحاد الأوروبي؟

تساؤلات تتطلَّب فعلًا الإجابة؛ لأن أهداف المجلس الواردة في نظامه الأساسي لم يُتَرجَم إلا اليسير منها على أرض الواقع عندما واجه المجلس الغزو العراقي الغاشم على الكويت. إلا لأنه وإن عرف أعداءه بعد أن تعلّم من محنة الغزو العراقي للكويت، إلا أن عدم وجود آليات التفاهم والحَدّ الأدنى من الاتفاق بين دوله الأعضاء حول موقف سياسي موحَّد تجاه العديد من القضايا أضاع الكثير من الوقت الثمين عن الاهتمام والالتفات إلى الكثير من القضايا الخطيرة والمهمة، المحيطة به ومنها:

1. مواجهة أطماع الدول الإقليمية وتطلعاتها التوسعية ومحاولة مَد نفوذها المذهبي والعقائدي مما أدى إلى تمدّد وتدخّل إيراني صارخ في الشؤون الداخلية لدول مجلس التعاون كما هو في اليمن والتآمر المستتر مع الولايات المتحدة التي كان لها دور بارز في زعزعة أمن واستقرار الشرق الأوسط عمومًا.

2. عدم استكمال المواطنة الخليجية التي هي طريق للوحدة الخليجية المطلوبة بسبب الخلافات بين دول المجلس، ودخولها في تفاصيل ومشاكل داخلية متعددة حول الحدود البرية والبحرية وآبار النفط المشتركة التي يتطلَّب حلّها الصراحة والوضوح لتستقر النفوس وتتصافى القلوب وتستقيم العلاقات الثنائية دون مطبات.

لذلك، فإن البدء بإجراءات التفاوض للوصول الى المصالحة الخليجية في مرحلتها الأخيرة بين البحرين وقطر التي جمعت وزيري خارجية البلدين في مقر الأمانة العامة لمجلس التعاون في الرياض يوم (7 فبراير 2023م) تستوجب عدم إهمال الأسباب الأساسية التي أدَّت إلى حدوث الأزمة ابتداءً، وصولًا لمناقشة الخلافات وإيجاد الحلول وآليات التنفيذ لمنع تكرارها، والسعي بجعل التفاوض الشفاف نحو المصالحة منطلقًا قويًا نحو بناء جسور الثقة وإقامة علاقات ثنائية على أسس وركائز قوية بين البلدين وتأكيدًا للتضامن والتعاون في المسارات المختلفة التي توقَّف عندها العمل الخليجي المشترك منذ (يونيو 2017م).

ولكي نكون أكثر وضوحًا لا بد هنا أيضًا من وقفة تأمّل ومراجعة للدروس التي نتجت عن هذه الأزمة وعواقبها الوخيمة على دول المجلس وشعوبها التي تتطلَّع إلى (الاتحاد) وتدفع نحو تعزيز التعاون تحت مظلة المجلس وتجاوز المشاكل التي عصفت به وكادت أن تزعزع كيانه وتطلعات أصحاب الجلالة والسمو قادة دول مجلس التعاون التي سعت دائمًا نحو تعزيز دور المجلس ومكانته الإقليمية والدولية وذلك بتفعيل الاليات المعطلة في النظام الأساسي.