هي مقولة قديمة بأن التاريخ حصانٌ جامحٌ لا يمر على بابك سوى مرة واحدة، وتقال بمعنى أن للتاريخ فرصه الخاصة والنادرة، فإن لم تمسك بها فاتتك ولن تتكرر عليك، وقياساً على هذا فإني أقول: إن المعاني أحصنةٌ جامحة كذلك، وإذا لاح لك معنى شاردٌ فعليك به أو سيفوت ولن يعود لطرق بابك، وهذه خلاصة ثقافية يعرفها كل من تعامل مع الأفكار، وإذا لم تتقيد الأفكار والمعاني في كلمات هي بمثابة محابس فكريةٍ فسيظل المعنى شارداً ليبحث عن صياد ماهر يلتقطه، والألفاظ قيد للمعنى، وكل معنى لا يتجسد في لفظ أو ألفاظٍ فهو خارج شرط الوجود، وكما قال الجاحظ فالمعاني ملقاة على الطريق، وتظل كذلك إلى أن تتجسد في لفظٍ، ولذا فكلما تشابه قول شاعرين مثلاً فحكم الأحقية سيكون لأجودهما تعبيراً عن المعنى، ونستطيع حمل مقولة الجاحظ لأبعد من مجرد تفضيله للفظ الجميل، فالمعاني التي في فضاء الطرقات ستظل في فضاءاتها إلى أن تسكن في جوف ألفاظ تختزنها لتصبح في إطار تعبير يتحرك بها وكأنها شحنة وقود معنوي شعري أو فكري ومعرفي يشحن اللفظ ويجعله حياً، وهذا يشبه الجسد إذ تسكنه الروح، والجسد يموت بمجرد مغادرة الروح له. والفلاسفة كما المبدعين هم المهرة في اقتناص الأفكار والمعاني وتحويلها لكلمات، ولذا نلحظ في الفلسفة خاصةً وجوهاً للتعقيد والغموض والصعوبة، وذلك بسبب عجز الألفاظ عن تقييد المعاني بقيود دقيقة تضبط انفلاتها وتحيط بها غير أن بعض المعاني وبسبب قوتها وحدة حيويته تظل متمنعةً على قيود الألفاظ، ويحدث كثيراً أن يأتي شراح الفلسفة ويأخذوا بتقييد معاني الفيلسوف، وهيجل مثال لذلك عبر شروحات شراحه التي يجرونها على مقولاته المراوغة، فيسعون لترويضها وكبح قدراتها على المراوغة، وما بين شارح وشارح تنتهي المحاولات لواحد يستفيد من سابقيه ويلملم جهودهم ليصل لدرجة تبدو أكثر دقةً ممن سلف، كما فعل برتراند راسل في تتبع شراح هيجل في مفهومه للمطلق واستجمع راسل جهود الشراح ليقدم تصوراً أدق من غيره في شرح مفهوم «المطلق عند هيجل» عبر ترويضه للفكرة العصية والمراوغة، وهذه لعبةٌ ذهنية تكشف كيف تتمكن العقول من تفصيل كلمات تلبّسها على الأفكار فتتجسد الفكرة في معنى مفهوم.
هذا في حال الفلسفة أما في الشعر، فهناك قصص كثيرة للشعراء تشير لما يلقونه من عناءٍ وعنتٍ لتصيد الألفاظ التي تليق بمعانيهم التي في رؤوسهم ومن ذلك ما رواه الجواهري من أنه يصاب بلوثة من الجنون، حيث يقع في توتر عنيف في ملاحقته لشوارد المعاني، وقيل عن جرير إنه كان يتمرغ في الصهريج في محاولات لتصيد التعابير اللائقة بشاعريته، ولا يبعد عنهم الباحث والكاتب والموسيقي مع تصيد الألحان وتلمس الإيقاعات، وكل فعلٍ يتصل باللغة، فهو مشروط بهذه الحالة التفاعلية المتوترة بين المعاني بوصفها أحصنةً جامحةً وبين الألفاظ بوصفها مصايدَ تحتاج لجهد جهيد لكي تتطابق مع المعاني المخاتلة والمراوغة. وكما قال فولتير، فإن الفكرة التي تأتي في وقتها تفوق كل جيوش العالم.
التعليقات