من قرأ مضمون حديث رئيس مجموعة المرتزقة الروسية "فاغنر" يفغيني بريغوجين قبل يومين، ونشرته وكالة "بلومبرغ "الأميركية، لا بد أنه اكتشف أن الحرب الروسية على أوكرانيا التي انطلقت يوم 24 شباط (فبراير) 2022، لم تعد "النزهة" التي اعتقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنها ستكونها. فالحرب مستمرة بوتيرة عالية منذ أكثر من أربعة عشر شهراً على التوالي، والنكسات الروسية في ميدان المعركة لم تعد تُحصى. وأتى كلام بريغوجين الذي بدأ بسحب قواته من جبهة مدينة باخموت، حيث خاضت معارك ضارية مع القوات الأوكرانية لأكثر من مئتي يوم، ليؤكد أن الحرب الدائرة مختلفة عما أراد الكرملين أن يصوّرها للشعب الروسي. فالحرب الدائرة ليست هذه "العملية العسكرية الخاصة" التي أعلنها الرئيس بوتين ليل 23- 24 شباط (فبراير) 2022 وأصر على رفض تسمية ما يدور على أرض العمليات بالحرب، ملقياً القبض على مواطنين روس تجرأوا على تسميتها بـ"الحرب". فقد قال بريغوجين في مقابلة صحافية إن روسيا تواجه وضعاً صعباً في أوكرانيا، متحدثاً عن هدف الحرب الذي وضعه بوتين قائلاً إن "القضاء على النازية الذي نتحدث عنه منح أوكرانيا الشرعية، وجعلها دولة معروفة في كل أنحاء العالم". وتساءل: "كيف قمنا بنزع سلاحها؟ في الواقع قمنا بتسليحها وأصبحت الآن تمتلك أحد أقوى الجيوش". وقال: "إننا في وضع يمكن أن نخسر فيه روسيا… وروسيا قد تواجه ثورة مماثلة لثورة 1917 وتخسر الحرب".

أضاءت هذه الأقوال الصادرة عن شخصية مركزية في الدائرة القريبة من الرئيس فلاديمير بوتين على المعضلة التي تواجهها روسيا التي لم تعد قادرة بالوسائل العسكرية التقليدية على الانتصار في الحرب في أوكرانيا. فنكسات الجيش الروسي لم تعد تُحصى، ما دفع هذا الجيش السيئ التدريب، والمفتقر منذ مدة إلى أسلحة متطورة كافية، ويعاني سوء قيادة على المستويات كافة، إلى اعتماد استراتيجية دفاعية عن خطوطه في الجزء الذي يحتله من منطقة الدونباس، وشبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو عام 2014. ففي الأساس كانت الحرب هجومية، وهدفت إلى احتلال العاصمة كييف، وإسقاط الحكم فيها، بعد سحق الجيش الأوكراني. والواقع أن بريغوجين لم يجافِ الحقيقة عندما قال إن أوكرانيا باتت تمتلك أحد أقوى الجيوش. فحسب العديد من المراقبين العسكريين، فإن الجيش الأوكراني قد يكون أصبح أقوى الجيوش في أوروبا كلها، يلي الجيش البولندي الذي ضاعف خططه التسليحية كثيراً، كون بولندا تقف على تماس مع تطلعات روسيا التوسعية. كما أن "حلف شمال الأطلسي" – "الناتو" الذي كان بوتين قد ربط حربه على أوكرانيا بالعمل على منع تمدده إلى حدوده، توسع ليضم إليه قبل بضعة أشهر فنلندا، وهي تتقاسم مع روسيا حدوداً طويلة تصل إلى 1200 كليومتر، فيما تنتظر السويد دورها للانضمام إلى الحلف، وتتطلع العديد من الدول الأخرى مثل مولدافيا وغيرها إلى الالتحاق بالحلف أيضاً. فالطموحات التوسعية الروسية زادت من الهوة مع دول الجوار، ودفعتها دفعاً إلى أحضان "الناتو" و"الاتحاد الأوروبي". وما من شك في أن فشل الحرب الروسية حتى الآن شجع هذه الدول (وأيضاً الجمهوريات السوفياتية السابقة في وسط آسيا) على التجرؤ والابتعاد من موسكو أكثر نتيجة لنكساتها في أوكرانيا، ودرءاً لطموحاتها التوسيعية القائمة على ميل لنقض حقائق ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

بالعودة إلى أوكرانيا، يعترف يفغيني بريغوجين بخسائر في معركة باخموت تصل إلى حوالي 20 ألف رجل، نصفهم من السجناء الذين أُخرجوا من السجون لقاء مال ووعد بأن يصبحوا أحراراً إذا ما نجوا من الحرب. وفيما لا يعترف الكرملين إلا بـ5900 قتيل منذ بدء الحرب، في وقت تقدر مراكز البحوث العسكرية الغربية أن تكون الخسائر ما بين 50 و100 ألف جندي بما يتجاوز بكثير خسائر الجيش السوفياتي في حرب أفغانستان التي دامت عشرة أعوام من 1979 إلى 1989 وقُدرت بـ18000 جندي. لكنها سرّعت من انهيار الاتحاد السوفياتي بعد أقل من عامين.

وعندما يحذر بريغوجين من نشوب ثورة مماثلة لثورة 1917، فهو يشير إلى أن خسارة الحرب باتت احتمالاً واقعياً، وأن ارتفاع الخسائر في صفوف الجنود المنتمين إلى طبقات الشعب الدنيا، في وقت يتمتع أبناء النخبة بحياة رفاهية كما يقول، ستنعكس في الشارع.

لكن يبقى أنه بالرغم من الحقائق المقلقة للكرملين، فإن الرئيس فلاديمير بوتين لا يزال متمسكاً بحربه التي باتت بلا أفق واقعي، بعدما تحولت إلى حرب استنزاف. من هنا السؤال: أما حان الوقت لكي توقف روسيا الحرب؟