قبل سنوات حضرت ندوة عن مستقبل الاقتصاد في المملكة، كانت أسعار النفط متدنية، والمتطلبات كثيرة. كان أكثر المداخلين متخوفين من عدم القدرة على الوفاء بمتطلبات التنمية، كانوا ينطلقون من نظرة اقتصادية تعتمد على الأرقام المتوافرة في ذلك الوقت، لكنهم أغفلوا عنصراً مهماً، وهو عنصر القيادة بتوجهاتها، وقدرتها على تنفيذ الخطط ووضع الأولويات. ومن يقرأ التاريخ يجد أن أهم عوامل نهوض الأمم هو القيادة، وليس الثروات أو عدد السكان أو الموقع، وعلى سبيل المثال لا الحصر بدأت اليابان نهضتها الحديثة في عهد الإمبراطور "موتسو هيتو" وأطلق عليه عهد الميجي ويعني "الحكومة المستنيرة"، فحين أراد النهوض باليابان بدأ باستقطاب وتوظيف العقول المفكرة من الغرب، وأحاط نفسه بكبار الخبراء والاستشاريين المحليين والعالميين، واستعان بالكثير من الخبراء الغربيين في مختلف المجالات، وأوفد البعثات والطلبة إلى الغرب بأعداد كبيرة، وأوفد مستشاره "إيتو هيرومبي" إلى أوروبا لمقارنة عدة دساتير لتحديث الدستور الياباني، وأخذ بالدستور الألماني، أوكل للخبراء الألمان وضع أسس نظام التعليم، وأسند تطوير القوات المسلحة إلى الإنجليز، وأسند تطوير الصناعة للخبراء البريطانيين أيضاً.

وقد قام بإصلاحات كثيرة كإلغاء نظام الإقطاع، وألغى الطبقية الاجتماعية، وفرض إلزامية التعليم، وحرص على تثقيف الشعب، وأصلح نظام الضرائب، ومنح الشعب الياباني الكثير من الحقوق والحريات، كما اهتم بترجمة العلوم والآداب إلى اللغة اليابانية، ولعب عهد الإمبراطور موتسو هيتو الدور الحاسم في قدرة اليابان على الابتكارات المبنية على العلوم والتقنية نتيجة ما وضع من سياسات تدعم وتحمي البحث العلمي والابتكار، ومن ثم بناء قدراتها الصناعية التي حولتها إلى قوة صناعية عالمية.

حين أقرأ مثل هذه التجارب العالمية، أقارن بينها وبين ما يجري في السعودية من إصلاحات كبيرة، وعلى كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، أجد أن العامل المشترك والأهم لكل نهضة هو القيادة، وإلى أي اتجاه تشير وتسير، أين تركز اهتمامها وجهودها؟ وبأي عناصر التقدم تأخذ؟ فالحضارة التي نعيشها اليوم ليست وليدة الغرب أو الشرق، لكنها بناء تراكمي انتقل من عصر إلى عصر، ومن دولة إلى أخرى، وكلما سقطت إمبراطورية نهضت أخرى. والمملكة اليوم بقيادتها التي تجمع بين الحكمة ونضج التجربة، مع القوة والشجاعة والطموح تسير في الاتجاه نفسه الذي سلكته الدول التي سبقتنا إلى العالم المتقدم، وهو الاهتمام البالغ بالإنسان، وبتعليمه الجيد على وجه الخصوص. والتركيز على الاقتصاد وتنويع مصادره، وتنمية متوازنة لكل مناطق المملكة، وعلاقات قوية ومتوازنة مع كل الدول الفاعلة، علاقات أساسها المصالح المشتركة والربح للجميع، مدركين أن التقدم الحضاري ليس شراء أحدث المعدات واستخدامها، لكن المساهمة في تصنيعها وتطويرها، وهذا يتطلب الدعم الكبير للأبحاث والتطوير والابتكار. وقد أشار أحد الزملاء المختصين بهذا الجانب، إلى أن أهم ركائز التطوير والابتكار هي:

توجه القيادة العليا وما تقدمه من دعم مالي وبشري لهذا المجال. الأبحاث والتطوير والابتكار من أصعب المجالات، ذلك أنه يتطلب البذل والصبر والتعاون حتى يعطي النتائج المطلوبة، ولا يمكن أن تنجح الأبحاث أو تعطي نتائجها المبهرة من دون اهتمام ودعم القيادة.

حماية الملكية الفكرية، بوضع القوانين واللوائح التي تضمن حماية البراءات وحقوق المؤلفين.

استقطاب القوى العاملة الماهرة التي هي العمود الفقري للابتكار، وتشمل العمال ذوي المهارات التقنية المتقدمة، إضافة إلى استقطاب العلماء من مختلف دول العالم، والذين يمكن أن يساهموا في تطوير المنتجات والخدمات الجديدة.

تمكين المبتكرين من الوصول إلى الأسواق لتسويق منتجاتهم وخدماتهم، وهذا يتطلب بيئة داعمة لريادة الأعمال والابتكار.

الابتكار عمل جماعي وهذا يتطلب تشريعات تحتم على المؤسسات الحكومية العمل مع بعضها لإنجاح المشروعات، بدل المنافسة، أو عمل الأبحاث نفسها في مؤسسات أو جامعات مختلفة، وهذا يتطلب مؤسسة متخصصة لمتابعة وتنسيق منظومة الابتكار على مستوى الدولة، والأمل معقود في هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار لتتولى ذلك.

التعاون مع مراكز الأبحاث في الدول المتقدمة من أهم عوامل بناء القدرات، واختصار الوقت. مع التركيز على الأبحاث التي تحتاجها المملكة كتحلية المياه، والبتروكيميائيات، والطاقة النظيفة والمتجددة، ومكافحة التصحر، تطوير المعدات التي يمكن أن يكون لها استخدامات مدنية وعسكرية، كالطائرات المسيرة.

من يقرأ التاريخ يعلم أن القادة الأقوياء المخلصين، وبما منحهم الله من قوة وحدس لمعرفة نقاط الضعف والقوة في مختلف أجهزة الدولة، هم القادرون على إعادة كتابة تاريخ بلادهم والعالم. وهم القادرون على السير بدولهم، إلى نادي الدول المتقدمة، ذات الاقتصاد القوي، والقادرة على مشاركة العالم في التطوير والابتكار وبناء الحضارة. وهذا هو ما تعيشه المملكة في هذا العهد القوي الزاهر.