نادراً ما تحوَّلت العباءةُ، ذلكَ الزِّيُّ التقليديُّ الموغلُ في القدم والعريقُ في التراث، إلى أداة في معركة سياسية بين اليمين واليسار، وبين مؤيدي الحكومة ومعارضيها مثلما يحصل الآنَ في فرنسا.

تلك العباءةُ التي سرَى بشأنِها ذلك البيتُ الشعريُّ الجميل...

ولبسُ عباءةٍ وتقرَّ عيني

أحبُّ إليَّ من لبسِ الشفوفِ

أصبحت فجأةً عدوةً للعلمانية في فرنسا وتوصف بأنَّها «رمزٌ ديني»، وصارَ من يلبسونها متهمينَ من قبل التيار المتطرف في تفسيره للعلمانية داخل الحكومة، بأنَّ هدفَهم هو تقويضُ الأسسِ التي تقوم عليها الجمهورية الفرنسية. والواقع أنَّ هذا المفهومَ المتشدد للعلمانية يكاد يجعلُها في موقعِ العداء للأديان والمتدينين، بدل أن تكونَ محايدةً تحرص على الحفاظ على حقوق جميع مواطنيها. هذا المفهومُ المتشدد أدَّى إلى صراع مع المتدينين الكاثوليك عندما أقرَّتِ العلمانية كقاعدة للجمهورية الفرنسية سنة 1905، واعتبر ذلك القرارُ في ذلك الحين معادياً لحقوقهم الدينية، وهو الموقف نفسُه الذي يحصل الآن من قبل المسلمين الفرنسيين، الذين بات يقارب عددهم 9 ملايين شخص.

هكذا أصبحتِ العباءةُ في نظر وزير التعليم الفرنسي، الذي يصرُّ على تركِ بصمةٍ مع تبوُّئه منصبَه الجديد، «رمزاً دينياً»، ولا أحدَ يعرف على ماذا اعتمد الوزيرُ الشابُ غابريال أتال، الذي قرأت أنَّ له أصولاً يهوديةً تونسية، على هذا التفسيرِ لظاهرة يفترض النظرُ إليها مجردَ زيٍّ يختاره المرء، سواء اتفقت معه أم لم تتفق، كما يمكن تفسيرُها من منطلق حرص بعض من يلبسونها، وخصوصاً من الفتيات اللواتي يرتدن المدارسَ الثانوية في فرنسا، على إخفاء شيء من بدانة أجسادهن، وقد يصادف أنَّ هؤلاء الفتيات مسلمات، لكن دينهن الذي يفرض عليهن الحشمةَ في الملبس، لا يفرض عليهن بالتأكيد ارتداءَ العباءة كواجب ديني.

من أين جاء الوزير إذن بالمقولة التي استند إليها لتحريم لبسِ العباءة مع بدء هذا العام الدراسي في فرنسا، بحجة أنَّه لا يجوز عند دخول أي صف دراسي أن يتعرَّف المعلم في المدرسة إلى دين الطالب من خلال ملبسه؟ وهو التبرير الذي دفع كثيرين في فرنسا وخارجها من منتقدي القرار، ومنهم مسؤولون في قطاع التعليم، إلى السؤال؛ لماذا لا تنطبق حجة «الزي الديني» نفسها على الطلاب أو الطالبات الذين يرتدون البنطلون أو الفستان أو التنورة أو القميص الذي يكشف الذراعين؟ لماذا لا يتمكَّن الوزير من التعرف على دين الطالب أو الطالبة التي ترتدي هذه الأزياء، مثلما يتعرف على دين من ترتدي العباءة؟

يضاف إلى ذلك ما يتعلق بالصعوبات العملية التي ستواجه محاولات تطبيق القرار من قبل مديري المدارس والمعلمين، خصوصاً أنَّ معظمَ المدارس الرسمية في فرنسا لا تفرض زياً موحداً على الطلاب مثلما تفعل المدارس الخاصة، وتترك للأهل حرية اختيار الأزياء لأولادهم. لذلك قرَّر وزير التعليم إجراء «دورات خاصة» لتدريب المسؤولين في المدارس على طريقة تطبيق القرار بحق الطلاب المخالفين. غير أنَّ من سلبيات التشدد في هذا التطبيق أنَّه سيخلق مشاكلَ قانونية للحكومة وسيدفع كثيرين من الأهل إمَّا لملاحقة الدولة قضائياً، حيث لا يوجد قانون يمنع ارتداء العباءة، كما حصل مع الرموز الدينية التي تم منعها في المدارس الرسمية منذ عام 1994، أو أن يكون الخيار الآخر هو إرسالَ أولادهم إلى مدارس دينية، ما سوف يعزّز الشرخَ الحاصل في المجتمع الفرنسي، الذي يؤدي من حين لآخر إلى اضطرابات في الضواحي تتدهور غالباً إلى مواجهات بين الشرطة وسكان هذه المناطق، وأكثريتهم من الجاليات المسلمة المقيمة في باريس وغيرها من المدن.

في كثير من التعليقات على هذا القرار وجد معلقون أنَّ دوافعَ المسألة كلها لا تتعدَّى كونَها دوافعَ سياسية، إذ لا تجد أي تبرير لها من منطلق ديني يمكن أن يضعَها في إطار الدفاع عن «القيم العلمانية» التي تتمسك بها الجمهورية الفرنسية، والتي تفصل إدارة شؤون الدولة عن شؤون الكنيسة وهمينتها. وفي إطار الدوافع السياسية وراء «قرار العباءة» ورد تعليق في موقع مجلة «بوليتيكو» يقول إنَّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أصاب عصفورين بحجر واحد من خلال هذا القرار الذي يحاول أن يفرضَه وزير التعليم أتال الذي يوصف بأنَّه مقرب من ماكرون؛ من جهة يحاول كسب أصوات أحزاب اليمين، من أمثال ماري لوبن وإيريك زمور التي أصبحت أصواتاً أكثر شعبية في فرنسا، كما أظهرت نتائج الانتخابات النيابية في العام الماضي، حتى أن وزيرَ الداخلية جيرالد دارماتان حذَّر من احتمال وصول لوبن إلى الإليزيه في انتخابات عام 2027. ومن جهة أخرى، يسعى ماكرون إلى شق صفوف اليسار الذي انقسمت تياراته بين مؤيدين لقرار العباءة، انطلاقاً من موافقتهم على التشدد في تطبيق «العلمانية»، فيما رفضه آخرون، من بينهم جان لوك ميلنشون، الذي حذَّر من «ظهور حرب مفتعلة وسخيفة» بسبب هذا القرار. كما اعتبر مسؤول آخر في صفوف اليساريين أنَّ الشرطة الفرنسية سوف تتحوَّل إلى «شرطة على الثياب» لتطبيق قرار الوزير.

في كل الأحوال، لا يمكن إخراج قرار وزير التعليم الفرنسي عن سياق عام أخذ يتمثل في اتساع موجة التأييد للتيارات اليمينية في أوروبا، وهي تيارات تميل بطبعها إلى النظر إلى الأمور بعين واحدة ورفض التسويات. من فرنسا إلى إيطاليا وفنلندا واليونان، فضلاً عن ارتفاع شعبية اليمين المتطرف في ألمانيا، وما شهدناه مؤخراً من حوادثَ متكررة لحرق القرآن في عدد من الدول الأوروبية، وهي حوادث لا تهدف سوى إلى إثارة العصبيات وردود الفعل الطائفية، التي تغذي التطرف وتزيد الصعوبات في وجه المعتدلين.