لم يتوقف الإنسان يوماً عن ملاحقة فضوله الفطري في الاكتشاف والتطلع لما وصل إليه أخوه الإنسان، سواء أكان ذلك في مجتمعه أو في مجتمعات أقاصي الأرض.
وليس بخفي ما شهده العالم العربي والإسلامي من تتابع حركات ثقافية قادمة من الغرب أثّرت بشكل واسع في المحيط الإسلامي، وصولا لإحداث تغييرات واضحة في تضاريس الحالة الاجتماعية والمعرفية والفلسفية. وكما أن الحديد لا يفله إلا الحديد، فإن ما يحاكي العقل لا يتوقع مواجهته إلا بأداة من النوع نفسه، وهنا يمكن تناول أحد الاتجاهات الفكرية التي برز أثرها والتأثر بها، وهو الفكر المادي لاسيما نسخته ذات العلاقة بالامتداد التاريخي، إذ تعتبر المادية التاريخية أحد أبرز الأساسات الدافعة بانطلاق الفكر الماركسي، نسبةً للفيلسوف كارل ماركس، وتثبيت أسسه إذ ما تزال هذه الفكرة تدرس في المعاهد والجامعات رغم إثبات فشلها بانهيار بنيان النظام الاشتراكي وقصور قوانينه الديالكتيكية.

ويعد استمرار التغذية العلمية لمجال ما ثبتت هشاشته وضعفه، دليلاً وإشارةً واضحة على اتصاله بالفلسفة والفكر، مما يعني وجود حاجة علمية «عاجلة»، وأن هذه الحاجة العلمية حتى تتحدد معالمها لا بد أن تغذى بإرهاصات فلسفية تطرح معظم التساؤلات، وتحصر التجاذبات المفاهيمية في سياق منتظم، إذ لم يتفق العلماء على اعتبار «الماركسية» من الأساس نظريةً علميةً، وبخاصة أنها جاءت في ظرفية فكرية «متخمة»، ودُسّت بين ذلك الكم الهائل من النظريات التي كان الغرب يعيش نشوة تحقيقها والنجاح فيها. وبصورة أقرب، فإن المنهج العلمي يمتاز بما لديه من حزم واتزان ووضوح، بعيداً عن الجدل والغموض الذي كان يمتاز به فحوى المنهج الماركسي، وبالتالي فهناك هوة واسعة بين طرح ماركس و«خط الفوز» بالوصول والموافقة مع المنهج العلمي.
وبمعنى أكثر وضوحاً فإن المنهج العلمي يستبعد كل ما ثبت أنه أقل صواباً ويبدله بالأقرب للدقة، ولا يقبل بالضياع في دائرة الجدل والانقلابات المستمرة، ولا التناقض من أساسه، فالعلم يفترض الاستمرارية لا التغير المفاجئ. كما يعد «عامل الزمن» مهماً في تثبيت وتأكيد صحة النظرية العلمية نسفها، وهذا ما حصل مع نظرية ماركس المادية، و«حتميته الشيوعية» التي أثبت التاريخ عدم دقتها، إذ لم تتضخم «البروليتاريا» ولم تنكمش طبقة رؤوس الأموال، بل هناك تحولات كبيرة أدت لاختلاف هذه المعادلة، ومن ذلك الثورة التقنية الجديدة، وتغير ملامح الحركة الصناعية وأدواتها.
وإلى ذلك فإن صورة المجتمع المختصرة بين بروليتاريا وبرجوازية لم تتحقق، بل هناك طبقة متوسطة فاعلة وتغير مستمر بين الطبقتين في تطور وتراجع. وعليه، فالمادية التاريخية كمنظور هيمن على الماركسية الغربية، لا يمكن تعميمه كصورة تاريخية، لافتقار أساسه في ذات المجال، وإنما يبقى مضمار نجاحه يدور حول التحليل الاقتصادي، وتقديم تحليل الطبقات الاجتماعية وحسب.
فالجدل المادي يؤسس لمنظور من ذات النوع حول الامتداد التاريخي، ولا يمكنه بناء مادية تاريخية بهذا التعبير الفضفاض. وبالتالي فالأهم إيلاء جهد بحثي وفلسفي للجدل المادي الذي يدرس العلاقة بين الطبقات الاجتماعية وتغيرات الاقتصاد، والتفاعل بين طبقات المجتمع.. وليس المادية التاريخية.

للفلسفة وجه تثبته أينما وجدت، في إخراج المكنون الفكري تجاه القضايا والثقافات التي تلامس واقع الإنسان، وها هي هنا تعتمد في إثباتها ونفيها على كل ما هو بعيد عن العاطفة، أو القرارات المفاجئة، لا سيما أن نتاجاتها متأنية ومدروسة ومبنية على تعمق موضوعي ومحايد. وباستخدام أدوات التحليل ومناهج النقد، تم رفض المادية التاريخية لقولها بالحتمية الشيوعية، بينما تعلّمنا الحياة أن التغير سنة ثابتة فيها!
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة