«هذا قد يؤدي إلى تفكك الاتحاد الأوروبي!»، لفظ «هذا» هنا جاء في إطار نقد لاذع وجّهه جوزيب بوريل، إلى أسلوب إدارة قضية الهجرة التي يعدها الشخص المسؤول عن السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، تهديداً قائماً بذاته. وتمثل الهجرة واحدة من تلك القضايا الخلافية الهادفة إلى تقسيم الناخبين إلى تكتلات متناحرة، مع تحويل الأنظار بعيداً عن المشكلات الحالية التي لا يبدو أن النخبة الحاكمة تملك حلاً لها.
تعمل هذه النوعية من القضايا الخلافية بشكل جيد في معظم الديمقراطيات الغربية، التي اعتمد الكثير منها نظام التمثيل النسبي الذي يسمح للأحزاب السياسية وجماعات الضغط بالحصول على مساحة داخل البرلمان بنسبة 5 في المائة من الأصوات التي دُري الإدلاء بها. وبالنظر إلى أن نسبة المشاركة بالتصويت في معظم الانتخابات تبلغ نحو 50 في المائة، فإن هذا يعني أن برنامجاً يقوم على مثل هذه القضايا الخلافية، بإمكانه اكتساب زخم من خلال ما لا يزيد على 2 إلى 3 في المائة من الأصوات.
اللافت أن العجز في الدعم العام الفعلي يجري تعويضه بحماسة أولئك الذين يقاتلون من أجل القضايا الخلافية بشغف يشبه الحمية الدينية. العام الماضي في لندن، قدمت حركة «أنقذوا الكوكب»، (سيف ذي بلانيت)، مثالاً دراماتيكياً في هذا السياق، عندما اجتمع مئات الرجال والنساء من جميع أرجاء إنجلترا في العاصمة لعرقلة الجسور والطرق ومنع الملايين من الناس من مواصلة حياتهم الطبيعية، ما كبّد الاقتصاد خسائر تجاوزت مليار جنيه إسترليني في غضون أيام قليلة.
ومن الممكن أن تؤتي هذه النوعية من القضايا الخلافية نتائج عكس المرجوّة لأولئك الذين يَعمدون إلى استغلالها لحشد عدد قليل من المؤيدين المتحمسين.
على سبيل المثال، وفّر العرض الذي قدمه أعضاء حركة «إنقاذ الكوكب» في لندن غطاء لرئيس الوزراء، ريشي سوناك، للتراجع عن بعض وعوده البيئية في إطار ما يُسمى اتفاق باريس، لإدراكه أن الجمهور الأكبر انتابه الغضب من السلوك المتطرف لأنصار البيئة. وتحول تكتيكات استغلال القضايا الخلافية دون إجراء فحص متزن وبعيد عن العواطف، لقضايا تستحق اهتماماً جاداً. وبسبب هذه التكتيكات، تتراجع أهمية هذه القضايا لتتحول إلى مجرد شعارات وتحركات عنيفة ضد رموز المجتمع.
ودعونا نعُدْ الآن إلى النقد الحاد الذي ورد في خطاب بوريل، الذي من المقرر أن يُضفي مصداقية على أحدث قضية خلافية مثيرة للانقسام.
يواجه معظم دول الاتحاد الأوروبي عجزاً سكانياً على المدى المتوسط يتعذر تصحيحه إلا من خلال الهجرة، وذلك بسبب مجموعة من العوامل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي جعلت من إنجاب الأطفال أمراً لا يحظى بإقبال شعبي. ومع ذلك، فإن مجرد التفوه بكلمة «الهجرة» في أي بلد بالاتحاد الأوروبي، قد يجعلك هدفاً لغضب حشود من الدهماء.
أما المفارقة الكبرى فتكمن في أن أوروبا لطالما اعتمدت على الهجرة. ومن دون العودة إلى قرون ماضية عندما كان الناس يتنقلون في شتى الاتجاهات، تؤكد نظرة سريعة إلى التاريخ الأوروبي هذا الأمر. مثلاً، بعد الهزيمة في حرب سيدان عام 1870 أمام الرايخ الألماني، كانت فرنسا مهووسة بما عُرف بـ«مرض 2 إلى 3»، لأن سكان ألمانيا كانوا أكثر من سكان فرنسا بمقدار الثلث. وحاولت فرنسا تصحيح الأمر من خلال جذب ملايين المهاجرين من إيطاليا وشبه الجزيرة الأيبيرية وبولندا والإمبراطورية العثمانية، وحتى كندا الناطقة بالفرنسية. وأقدمت بريطانيا العظمى على شيء مشابه، من خلال جذب مستوطنين من آيرلندا، وفي وقت لاحق من شبه القارة الهندية واليمن. وبعد الحرب العالمية الأولى، أجبرت الاحتياجات الديمغرافية الهائلة الناجمة عن الخسائر الكبيرة في ساحات المعركة، فرنسا وبريطانيا على فرض حظر على مواطنيهما يمنعهم من الهجرة إلى العالم الجديد، بينما استقبلوا المستوطنين من «المستعمرات الخارجية» الخاصة بهم.
في الوقت ذاته، اعتمدت ألمانيا على «ألمان الفولغا» وغيرهم من الجماعات الجرمانية في وسط أوروبا، ناهيك بتركيا، لاستقطاب مواطنين جدد. أما إيطاليا، التي كانت مصدراً للهجرة الجماعية إلى الأميركتين، فعانت من صدمة ديمغرافية حادة خلال الستينات، وتواجه اليوم احتمالاً للاندثار نظرياً. وسعياً لعلاج العجز السكاني، توصلت إيطاليا في التسعينات لاتفاق لاستيراد 100 ألف عامل إيراني على مدى 10 سنوات.
ومع ذلك، لم يجرِ تنفيذ الاتفاقية بسبب المعارضة من جماعات الضغط التي زعمت أن طهران سترسل متطرفين إسلاميين، لتسريع ما سمّتها الصحافية أوريانا فالاتشي «أسلمة أوروبا». وبلغ الأمر إطلاق صحافي سويسري تحذيراً من أن أوروبا في طريقها لتصبح «يورابيا». أما العامل الأساسي وراء فشل السيناريو المذكور، فهي المشكلة السكانية داخل إيران نفسها، جراء أكبر موجة هجرة للعقول في التاريخ، بالإضافة إلى أدنى معدلات مواليد تشهدها إيران منذ قرون.
وتكمن المفارقة الحقيقية في أنه في حين يجري استغلال الهجرة بوصفها قضية مثيرة للانقسام من جانب الجماعات اليمينية المتطرفة، تجابه جميع دول الاتحاد الأوروبي نقصاً مزمناً في القوى العاملة، وتبحث عن وسائل لمعالجة العجز السكاني.
من جهتها، استخدمت بولندا الضجة التي أحاطت «بريكست» لإقناع الكثير من مواطنيها السابقين بالعودة من بريطانيا، وفي بعض الحالات لم يكن للعائدين المحتملين أي خبرة سابقة في بولندا، ولا يجيدون اللغة البولندية. أما بلغاريا، فتدفع أموالاً لمواطنيها مقابل عدم الهجرة.
في العام الأخير لها بمنصب المستشارة الألمانية، وجهت أنجيلا ميركل، دعوة إلى «شباب أوروبا» للعيش والاستقرار في ألمانيا.
أما المملكة المتحدة، فقد قررت بصمتٍ الاستمرار في منح مواطني الاتحاد الأوروبي الحقوق والتسهيلات التي كانوا ينعمون بها قبل «بريكست» حتى نهاية عام 2025، على أمل إقناع المزيد منهم بالبقاء في المملكة المتحدة، والتقدم بطلب للحصول على إقامة دائمة. والمدهش أن الذين يبقون سيستمرون في التمتع بحق التصويت في الانتخابات المحلية البريطانية.
حتى جورجيا ميلوني، رئيسة الوزراء الإيطالية المتطرفة المعادية للهجرة، وافقت للتوّ على قبول 136 ألف مهاجر جديد سنوياً، بينما تقول حكومتها إن العدد اللازم 350 ألفاً.
وفي حين أن الحديث عن «الحد من الهجرة» ربما أصبح بمثابة «موضة»، حقق الاتحاد الأوروبي توّاً رقماً قياسياً في اجتذاب المهاجرين. خلال العقد الماضي، استوعبت ألمانيا وحدها أكثر من خمسة ملايين مهاجر، قَدِموا بشكل رئيسي من البلقان وسوريا وأفغانستان والأجزاء الكردية في تركيا والعراق، وفي الفترة الأخيرة، أوكرانيا ومولدوفا وبيلاروسيا.
وتشير الأرقام المتاحة إلى أن الاتحاد الأوروبي وبريطانيا يستقبلان أكثر من 1.2 مليون مهاجر جديد سنوياً. وفي بعض الحالات، يُقْدم أعضاء الاتحاد الأوروبي على «سرقة» القوى العاملة بعضهم من بعض. ومع ذلك، تظل القارة بحاجة إلى ما لا يقل عن ضِعف هذا العدد من المهاجرين الجدد سنوياً، للتعامل مع العجز السكاني. وبدلاً من استخدام قضية الهجرة في إثارة الفُرقة وإخفائها تحت ضباب من العواطف والقومية الزائفة، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى مواجهة الحقيقة والكشف عنها، ووضع سياسة مشتركة لمشاركة التحديات والمزايا المرتبطة بما كان دوماً وسيظل عنصراً أساسياً في تشكيل أوروبا.
أما ممارسة الألاعيب السياسية الرخيصة فيما يتعلق بهذه القضية، فإنه قد يؤدي إلى تكرار التجربة التي عاشتها هذه المجتمعات مع المسائل الخلافية الأخرى، ما يعني في هذه الحالة تدفق مهاجرين أكثر من الحاجة، والمزيد من الأشخاص غير المناسبين، مع اشتعال -في الوقت ذاته- أجواء الريبة والكراهية والشوفينية، في خضمّ معاناة هائلة لأولئك الذين يخاطرون بحياتهم للوصول إلى أوروبا لتقديم ما تحتاج إليه: أي المزيد من الأيدي العاملة.=
التعليقات