أظهرت الوقائع التي تكشّفت أخيراً عن «حرب أكتوبر» 1973، في ذكراها الخمسين، إلى أي حدّ ألقت تلك الحرب بظلالها على الحقبة الممتدة حتى الآن وساهمت في تغيير المشهد في الشرق الأوسط، كما في تعديل السياسات الإقليمية والدولية أو تغييرها. وفيما برّر مرور هذه المدة الزمنية فتح الوثائق الرسمية، وليس كلّها، في واشنطن كما في موسكو وإسرائيل وبعض عواصم أوروبا، إلا أن القاهرة ودمشق لم تريا موجباً لكشف ما لديهما من معطيات.
ويتبيّن مما نُشر، نقلاً عن الأرشيفات المتاحة، أن الدول التي كانت معنية بالحدث آنذاك إمّا تقلّص دورها كالاتحاد السوفييتي/ روسيا وأوروبا ليبقى الدور الأميركي وحده، وأن مسارات الأطراف العربي تفرّقت، وأن الفلسطينيين دفعوا الثمن باهظاً كشعب وأرض ووطن وحتى كتقرير مصير، وفق ما لفت إليه تقرير دبلوماسي فرنسي مبكر جداً.

لذا يُطرح السؤال، بعد خمسة عقود، عما فعل المنتصرون بانتصارهم والمهزومون بهزيمتهم؟ في يوميات الحرب كان عبور الجيش المصري إلى سيناء وتحريرها عنوان النصر، رغم الأضرار الجسيمة التي شكّلتها «ثغرة الدفرسوار». في الأثناء كان الجيش السوري استعاد الجولان وتقدّم أبعد وراء الحدود قبل أن يواجه الجسر الجوي الأميركي ويضطر للتراجع فعادت المرتفعات محتلّة ولا تزال.

وعلى الجانب الإسرائيلي صحّ القول إن المفاجأة/ الصدمة الأشد وقعاً هي التي تكون عناصرها معروفة ولم يرها أحد، لكن «الحرب خدعة»، كما في قولة الرسول محمد عليه السلام، ولا يزال الإسرائيليون حتى اليوم مستائين من تقصيرهم في تقييم الوضع والمعلومات التي توفّرت لديهم خلال الساعات السابقة لانطلاق الحرب، لكن المراجعات والتحقيقات التي أجروها على مدى أعوام مكّنتهم- بالاستناد إلى الولايات المتحدة- من جعل «حرب أكتوبر» نقطة تحوّل استراتيجي في الصراع العربي- الإسرائيلي.

يدرك الإسرائيليون أن الأميركيين أنقذوهم من خطر اعتبروه «وجودياً» في تلك الحرب، رغم تفوّقهم العسكري، لذلك وضعوا جانباً «الأوهام» السابقة وراحوا يتعاطون غداة وقف إطلاق النار واتفاقات الفصل بين القوات بشيء من المرونة مع «أطروحات السلام»، لكنهم قاوموا بشدّة فكرة «المؤتمر الدولي» مفضّلين المعاهدات الثنائية، أولاً مع مصر من دون الموافقة على أي التزام يتعلق بالفلسطينيين، ولاحقاً مع الأردن مع القبول فقط بالوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة، التي يواصلون تهميشها بـ «أمر واقع يحاولون فرضه على المسجد الأقصى وغيره.

في العام 1991، وقبل أن يدفع تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة قوات صدّام حسين إلى خارج الكويت، سارعت واشنطن إلى اعتبار الغزو العراقي إيذاناً بسقوط «النظام العربي» الإقليمي وسقوط «خيار الحرب» العربي، ما شكّل خلفية لدعوة سوريا والأردن ولبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى «مؤتمر مدريد» برعاية أميركية- روسية، وبعدما حاولت إسرائيل عرقلة هذا المؤتمر اضطرّها الضغط الأميركي للمشاركة فيه، ثم تمكّنت لاحقاً من إحباط صفته الدولية الجامعة وحوّلته إلى مسارات ثنائية. بعد «حرب أكتوبر» كان واضحاً أن واشنطن وإسرائيل عملتا على هدفين استراتيجيين: عدم السماح بأن يوحّد العرب جهودهم العسكرية مجدداً، والحؤول دون استخدام «سلاح النفط» ثانيةً.

وكانت الانقسامات العربية تكاثرت بعد الحرب فأمكن البناء عليها، خصوصاً أنها تمحورت حول الخيارات المطروحة تحت عنوان «السلام» والآليات المقترحة للتوصل إليه، وما لبثت أن تحوّلت إلى خلافات على الدور الفلسطيني والحرب الأهلية في لبنان، وبعدها على الموقف من الحرب العراقية - الإيرانية، واستمرّت الخلافات تولّد خلافات.
*محلل سياسي- لندن