كل المؤشرات السياسية تدلّ على أنّ هناك تغطيةً أميركية واسعة وضوءاً أخضرَ من الغرب لاستمرار الحرب الإسرائيلية التدميرية على غزة وصولاً إلى الغزو البرّي للقطاع. حتى الآن وعلى ما تعكسه الوقائع الميدانية، لا يشمل التصعيد الإسرائيلي فتح معركة واسعة مع "حزب الله" على جبهة لبنان، باعتبار أنّ حرباً من هذا النوع ستشغلها عن تركيز كل قواتها والتفرّغ لإنهاء حركة "حماس" التي وضعت بعمليتها "طوفان الأقصى" الكيان الإسرائيلي في مأزق كبير نتيجة ما حقّقته من اختراقات وخسائر في البنية الإسرائيلية، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى وضع كل إمكاناتها في خدمة إسرائيل وحتى تولّي زمام الأمور في إدارة الحرب لإنقاذها.
وبينما تواصل إسرائيل عمليات التدمير وتلوّح بحرب بريّة على القطاع متوعدة باقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، تتركّز الأنظار على الجنوب وإمكان تمدّد الصراع إلى لبنان على وقع التوتر الذي تشهده الحدود مع فلسطين المحتلة في ضوء عمليات المقاومة والمواجهات المتبادلة على أكثر من موقع على الخط الأزرق. في المقابل، لم يدخل "حزب الله" فعلياً بعد في المعركة، وذلك رغم العمليات التي نفّذها توازياً مع اختراقات للحدود من مجموعات فلسطينية، لكنها بقيت ضمن نطاق محدّد يضبطه الحزب إلى أن تحين لحظة الحرب الكبرى وفقاً للتطورات الميدانية في الداخل الفلسطيني وعلى أرض غزة، وفي انتظار القرار الإقليمي من المرجعية الإيرانية للانخراط في الحرب.
الحشد الدولي المؤيّد لإسرائيل في معركتها ضدّ "حماس"، يدلّ على أنّ الحرب ضدّ الفلسطينيين في قطاع غزة هي أبعد من مجرد معركة لإنهاء الحركة، أو خوضها ضدّ "حزب الله" في الجنوب اللبناني بالطريقة التي أديرت فيها في تموز (يوليو) 2006. لذا يحتسب الجميع ومن بينهم الإيرانيون، أنّ الحرب يمكن أن تؤدي إلى تغيير في خريطة المنطقة، خصوصاً إذا تمكن الاحتلال الإسرائيلي من الدخول إلى غزة وتهجير الفلسطينيين إلى شتات جديد، وهو ما حذّرت منه مصر وأيضاً الأردن، ما يؤدي إلى إنهاء القضية الفلسطينية في أرضها أو في الداخل بغطاء دولي.
يمكن تقييم ما يحدث فعلياً في المنطقة من خلال الحشد العسكري الأميركي بحاملتي الطائرات إلى المتوسط والجسر الجوي المفتوح بالسلاح والذخائر إلى إسرائيل، وهو أمر لم يحدث إلاّ في الحرب العربية – الإسرائيلية عام 1973. تقول واشنطن بوضوح إنّها تدير المعركة وتوجّه رسائل إلى إيران و"حزب الله" وكل الدول في المنطقة، أنّها بصدد الحسم، وإن كانت لا تريد أن يتفجّر الوضع الآن على جبهة لبنان. يعني ذلك أنّ الاميركيين يريدون ضمان أن تخرج إسرائيل منتصرة في حربها ضدّ الفلسطينيين وتتجنّب في الوقت ذاته نشوب حرب إقليمية في المنطقة، ولذا كثرت رسائلها التحذيرية من خلال جولات وزير خارجيتها أنتوني بلينكن في المنطقة ثم حضور الرئيس جو بايدن إلى إسرائيل وإعلانه مواقف تصبّ في محاولة استعادة الكيان لتوازنه بعد عملية "حماس".
في المعركة التي تُخاض ضدّ الفلسطينيين، يجري تحييد جبهة لبنان أقلّه في المرحلة الراهنة، وهو أمر ينسحب أيضاً على "حزب الله" الذي يبدو أنّه لن يفتحها إلاّ في حال شعر أنّ "حماس" لم يعد في إمكانها الصمود أو ذهبت الأمور إلى مسارات أخرى.
حرب غزة لا يعني أنّها ستنتقل إلى لبنان في وقت قريب، وإن كانت وتيرة المواجهات ارتفعت على الحدود اللبنانية، وتمدّدها إلى مناطق عدة في الجنوب، إضافة إلى مشاركة أوسع من فصائل فلسطينية في العمليات والاختراق. حتى الآن يلتزم "حزب الله" بقرار مرجعيته الذي أعلن عنه وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان خلال زيارته لبيروت، والتي استهلّها بلقاء مع الأمين العام للحزب حسن نصرالله، بالتزام التهدئة، قبل أن يهدّد بأنّ عدم إيقاف الحرب في غزة قد يؤدي إلى التصعيد الشامل وفتح جبهات عدة، وأنّ تدخّل "حزب الله" في المعركة سيُحدث زلزالاً كبيراً يهزّ الكيان ويُسهم في تغيير الوضع في المنطقة. لكن يبدو أنّ إسرائيل و"حزب الله" لا يخرجان عن قواعد الاشتباك والمناوشات المتفرقة، وإن كانت أحدثت تهجيراً للقرى الجنوبية على الشريط الحدودي. لكن المعارك على الحدود تبدو حتى الآن مدروسة، وتتضمن رسائل متبادلة، من بينها إشراك "حزب الله" للجماعة الإسلامية في إطلاق الصواريخ، وهي للقول إنّ المواجهة مع إسرائيل لا تقتصر على الطرف الشيعي إنما لها امتدادات بين السنّة، وهي رسالة للأميركيين والإسرائيليين أيضاً. حتى أنّ معظم العمليات التي شنّها الحزب في الجنوب كانت من بلدات سنّية على الشريط الحدودي مع إسرائيل.
المعادلة باتت واضحة إلى أبعد الحدود. الحرب الإسرائيلية على غزة ستستمر، فيما جبهة لبنان الجنوبية ستبقى خامدة أو في التصرّف وفقاً للحسابات. ولذا كان مفهوماً مثلاً عدم ظهور نصرالله إلى العلن، وهو الذي كان يهدّد عند كل منعطف أو تصعيد إسرائيلي، بحرب مفتوحة تؤدي إلى إزالة الكيان. لكن يبدو أنّ الامور في البلد والانقسام اللبناني بشأن الحرب، يجعلان خوضها وكأنّها مغامرة يتدحرج فيها لبنان أكثر إلى الانهيار، طالما أنّ ما يحدث في غزة هو أبعد من معركة ردّ اعتبار وتمتد إلى الإقليم كله.
ويبدو أنّ نصرالله ينتظر قراراً إيرانياً للمشاركة في الحرب، وهو قرار مرتبط بما ستؤول إليه التطورات في غزة، فإذا تبين أنّ إسرائيل تسعى إلى اقتلاع الفلسطينيين، ولم تتمكن "حماس" من الصمود، فإنّ فتح الجبهة من لبنان قد يصبح أمراً واقعاً، وهو أحد السيناريوهات التي طُرحت على الطاولة بين عبد اللهيان ونصرالله. وفي المقابل، يتبين أنّ قرار الانخراط في الحرب إذا تطورت الأوضاع، لا ينطلق من حسابات لبنانية أو عربية، إنما بتوريط لبنان أكثر في نزاع لا قدرة له على تحمّله، وإن كان التضامن مع غزة والفلسطينيين مشروعاً، إذ سيتبين إذا خرجت الأمور عن السيطرة، أنّ لبنان وحده معني بـ"وحدة الجبهات"، فيما الكلام عن التصعيد ضدّ إسرائيل وأميركا من سوريا إلى اليمن والعراق واحتمال تدخّل إيراني مباشر هو مجرد تكهنات وهي غير مؤثرة في المعركة. ولذا كان واضحاً أنّ عدم انخراط "حزب الله" في الحرب منذ بدايتها أنّه يحسب بالتماهي مع مرجعيته ما يمكن أن تذهب إليه الامور خصوصاً مع التغطية الأميركية المباشرة للحرب الإسرائيلية على غزة.
لن تكون الحرب مع لبنان سهلة، إذا كان هناك من قرار بتغيير خريطة المنطقة. ويبدو أنّ المعركة ضدّ الفلسطينيين هي المفتاح لذلك، فإذا اشتعلت حرب لبنان ستؤدي إلى تغيّرات كبرى على صعيد كيانات أخرى من سوريا إلى العراق واليمن. فهل يأخذ نصرالله بالاعتبار حسابات أي معركة كبرى قد تؤدي إلى تهجير ودمار، فيما مقومات الصمود اللبنانية غير جاهزة في بلد وصل إلى حدّ الموت.
أي حرب تنطلق من لبنان ستكون مصيرية، لذا ينتظر الحزب نتائج معركة الفلسطينيين في غزة، للانخراط في المواجهة وترجمة عنوان "وحدة الجبهات" فعلياً على الأرض. لكن دخوله سيعني أنّ هناك قراراً إقليمياً بالحرب، وهو لم يُتخذ بعد لأسباب لها علاقة بالتطورات في المنطقة، وتهيئة المقومات اللوجستية لما يمكن أن يحدث على مختلف الجبهات. لكن يُحتمل في أي وقت أن يتمّ إقحام لبنان ليس انطلاقاً من حسابات خاطئة، بل تبعاً لمسار التطورات. الحرب لم تعد تحمل عنصر المفاجأة، خصوصاً في وضع دولي يدعم إسرائيل، فلا ضمان لحجم المعركة ومستويات الردّ، إذا قرّر الحزب صاحب السيناريو الذي نفّذته "حماس" الدخول إلى المستوطنات الإسرائيلية، أو إذا قرّرت إسرائيل اجتياح لبنان بحرب تدميرية. عندها قد تتغيّر كل خرائط المنطقة.
التعليقات