حماس فكرة. إنها مشروع أيديولوجي وسياسي وتعبوي. وكأي مشروع مماثل فإن القضاء عليه بعمل عسكري، مجرد تصوّر غبي.

الأفكار لا تزول بقوة الدبابات. قد يمكن مكافحتها بقوة المثال المضاد، إلا أنه لا يمكن مكافحتها بالقوة. وبالتأكيد ليس بعملية عسكرية، هي نفسها جريمة.

لقد احتاج العالم الرأسمالي أن يخوض حربا بقوة المثال المضاد دامت نحو سبعة عقود قبل أن تنهار “الماركسية اللينينية” كفكرة، وكنظام اقتصادي، وتنهار معها سلطتها.

حماس تملك مبررا. “الصراع الطبقي” إذا كان مبررا منطقيا وجديرا بالاعتبار بالنسبة إلى الماركسية، فإن “الصراع التحرري” مبرر أقوى بكثير. وحماس، كما غيرها من المنظمات الفلسطينية المماثلة، تخوض صراعا تحرريا لا يستمد قوته من الحق الطبيعي لكل أمة في تقرير المصير فحسب، ولكنه يستمد قوته من طبيعة إسرائيل نفسها كمشروع استيطاني، قام على أسس عدوانية، ونشأ على مذابح، ودعمته قوى استعمارية تم طردها من الباب، فاستخدمته لتعود إلى المنطقة من الشباك. وهو ما يعني أنه إذا كان للتطلعات التحررية الوطنية، الجزائرية على سبيل المثال، سبب واحد، فإن للتطلعات التحررية الفلسطينية سببين على الأقل.

حرب التحرير الوطنية في الجزائر احتاجت 132 عامًا للتحرر من ربقة الاستعمار الاستيطاني الفرنسي. ومازال أمام الفلسطينيين نحو خمسين عاما أخرى، لكي يقولوا إنهم قاتلوا من أجل حريتهم بمقدار ما قاتل الجزائريون.

مشروع حماس مثل أيّ مشروع أيديولوجي وسياسي آخر، فمن الطبيعي أن تنافسه مشاريع أخرى، تعيب عليه وتنتقده، وتقترح خيارات بديلة له. غير أن “المشاريع” الفلسطينية البديلة ليست أكثر نجاحا. بعضها يخوض في مستنقع من المخازي، وأكثرها لم يتوصل إلى إستراتيجية تحررية ناجعة. حماس تستطيع في مقابل هذه البدائل أن تقول إنها تعرف طريقا واحدا على الأقل. قد يبدو مغلقا في أعين الآخرين، إلا أنه ليس مغلقا في عينها.

وهناك سبب للفشل الفلسطيني العام، هو المشروع الاستيطاني الإسرائيلي نفسه. هذا المشروع لا يعطي فرصة لأي خيار فلسطيني بديل. إنه مشروع يريد هزيمة الجميع. يريد إذلالهم وسحق هويتهم الوطنية. ما يجعل “حماس” أكثر واقعية من “فتح” في “عين الواقع”.

حماس أكبر من نفسها. المنظمات الفلسطينية المسلحة التي تتبنى خيارات المقاومة عديدة، ولا تقتصر على “الإسلاميين” وحدهم. كما أنها ليست فروع تنظيمات تنشق عن الأصل، مثل “شهداء الأقصى” في “فتح” فقط. إنها تنظيمات أفراد أيضا. بل أفراد من دون أي تنظيم. وهؤلاء جذوة قتال لا تنطفئ. السبب الذي يغذيها، هو نفسه السبب الذي يغذي حماس.

الاحتلال احتلال في النهاية. وهو يبرر مقاومته بنفسه. المفاضلة بين مقاومة مسلحة وأخرى سلمية شيء لطيف في الصالونات الثقافية. على أرض الواقع هناك ضحايا يُقتلون كل يوم، ومعذبون ومحاصرون ومعتقلون، وأرض يتم نهبها، وسكان تتهدم منازلهم. هؤلاء لا يجلسون على مقاعد وثيرة في النقاش الثقافي. والاحتلال، على أي حال، لم يسمح لأي اتجاه من اتجاهات المفاضلة أن يبدو نافعا. بقي أن السلاح يجعل الاحتلال ذا ثمن، بينما النقاش الثقافي يمنح التوسع الاستيطاني صك غفران.

حماس دولة. إنها بنية تنظيمية وإدارية مدنية وليست تنظيما عسكريا فقط. تستقطب هذه الدولة دعم الغالبية من مواطني غزة. منهم مَنْ يرتبط بها ارتباطا وظيفيا مباشرا، ومنهم مَنْ يستفيد من خدماتها، ومنهم مَنْ يدعمها لأنه عندما يُفاضل بأسبابه التحررية لا يجد سببا معقولا لدعم غيرها.

كيف يمكن إذن القضاء على حماس، أو على حكمها، من دون “مثال مضاد”، ولا نموذج عيش أو تعايش ناجح، ولا حلول للصراع، ولا حريات، ولا حقوق؟

هناك بين الإسرائيليين من يوحي بأنه حتى لو كان الطاقم الوزاري في إسرائيل مؤلفا من مجموعة حمير فإنه يجب أن يشرح على الأقل كيف سوف يقضي على حماس.

أولا، الدبابات لا تستطيع أن تقيم “حكما” بديلا. “نموذج مقديشو” الذي دفع الأميركيين إلى الهرب سوف يدفع الإسرائيليين إلى الهرب من غزة أيضا. هم أنفسهم هربوا، قبل ذلك، من بيروت في العام 1982.

ثانيا، سلطة “خيال المآتة” التي يمثلها الرئيس محمود عباس قد ترغب في “العودة” إلى غزة على ظهور الدبابات الإسرائيلية، إلا أنها سوف تُذبح في ليلة بلا قمر. غزة “وكر دبابير” ليس للإسرائيليين وحدهم، ولكن لمن شاءوا أن يكونوا مطاياهم أيضا. المنظر سوف يكون ممتعا للإسرائيليين في البداية، ولكن عواقبه لن تكون ممتعة. عباس الذي احتاج 10 سنوات للدخول إلى مخيم جنين، في الضفة الغربية، وعومل كبعير أجرب، سوف يحتاج 100 سنة قبل أن يدخل غزة.

ثالثا، مصر ليست في وارد أن ترسل “مراقبين” ولا “مندوبين” ولا “مشرفين” لإدارة القطاع، لأن الأردن لا يريد “إعادة الارتباط” بالضفة الغربية. مشروع تهجير مليون غزاوي إلى سيناء، الذي تم رفضه، يفعل الشيء نفسه، لو عادت مصر إلى إدارة القطاع.

رابعا، لا توجد “معارضة” لحكم حماس في غزة تملك الأهلية ولا النفوذ الذي يكفل أن تكون بديلا لسلطتها. ليس بعد هذه المجزرة، في جميع الأحوال.

خامسا، ترك مليوني مواطن في الجحيم الراهن، لن يوفر لإسرائيل أمنا. ما تهدم من المباني تهدم أكثر منه في النفوس. إنه خراب يكفي لتغذية دوافع القتال للخمسين عاما المقبلة. لقد كان ذلك بمثابة هدية لمشروع المقاومة المسلحة، يكفي لإنتاج جيلين من حماس.

تجمع هذه الهدية صورتين: إمكانية الدوس على رقاب الجنود الإسرائيليين على الأرض، والعيش في جحيم انتقام طائرات دولتهم لرد كرامتها المهدورة.

إسرائيل التي لا تريد حلولا سلمية، ولا إقامة دولة فلسطينية على حدود العام 1967، اختارت المكان والوسيلة والهدف الذي يجعل “تحقيق النصر” لها مستحيلا.

تريد أن تقضي على “حكم حماس”، وهي لا تعرف له بديلا. وقد تترك وراءها خرابا، خلف أسوار جديدة، لتبدو وكأنها لم تفهم أن الأسوار سقطت. وتريد أن تبقى قوة احتلال، من دون أن تلاحظ أن الاحتلال هو أصل المشكلة، وأنه يهدد أمنها بأكثر من حماس واحدة. وهي ترتكب جرائم حرب وتظن أن الحماية التي يوفرها الغرب ستكون كافية، وتنسى أن جرائم الحرب وبقاء الاحتلال يغذيان صراعا لا تنطفئ جذوته.

توجد مجموعة في بريطانيا، تقول وكالة الصحافة الفرنسية إنها تشكل إزعاجا لحزب المحافظين بسبب ما ترفعه من شعارات ساخرة ضد سياساته الحمقاء منذ أن فاز بالاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي.

المجموعة التي تحمل اسم “يقودنا حمير” تثير الضحك فقط. وتقول “إن الضحك يُفقد الحمير قوتها”.

الإسرائيليون يقودهم حمير أيضا. ولكن لا شيء مما يفعلونه يثير الضحك.