أعطت الحربُ في أوكرانيا قوةَ دفعٍ هائلة لحلف شمال الأطلسي («الناتو»)، بعد أن دخل لسنواتٍ طويلة قبلها في حالة جمود أثارت شكوكًا في مستقبله. فقد أدى التوافق على دعم أوكرانيا في مواجهة روسيا إلى إعادة رص صفوف الحلف وتفعيله. لكن الخلافات التي بدأت تدبُ في صفوفه منذ أسابيع بشأن بعض جوانب قضية دعم أوكرانيا، وقضايا أخرى متصلة بها، تثيرُ السؤالَ مُجدداً عن مستقبله بعد الحرب التي ستنتهي في وقتٍ ما أو قبل انتهائها.
في شهر نوفمبر عام 2019 تحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن أن الحلف بات مُعرَّضاً لخطر الموت الدماغي. وبغض النظر عن دقة هذا «التشخيص»، الذي صدر عن ماكرون في لحظة غضبٍ، فالمقصودُ بذلك هو أن الحلف كان في حالة فُرقة وتشتت وجمود. ولهذا يمكن إعادة تحديد السؤال كالتالي: هل تزدادُ الخلافاتُ التي بدأت في الظهور على بعض جوانب القضية التي جمعت شمل أعضائه، فيعود إلى حالته قبلها؟
من الطبيعي أن تختلف الإجابات حسب منهجية تحليل الخلافات التي بدأت، وطريقة تقدير الآثار المحتملة لها. وهذا طبيعي في أي تطورٍ جديد، وخاصةً إن لم يكن متوقعاً في وقت حدوثه على الأقل. فقد كان واضحاً في بداية الحرب الروسية الأوكرانية إدراك الحلف أنها ستطولُ لسنوات وليست لأشهُر. وهذا ما يستفادُ من بياناتٍ أصدرها، ومن حُزَم العقوبات التي فرضها على روسيا إذ أن بعضها من النوع الذي لا يُحقِّق نتائجَه إلا بعد مرور سنوات على تاريخ إقراره ودخوله حيز التنفيذ.
ولهذا لم يكن متوقعاً أن تدب الخلافاتُ داخل الحلف حالياً. قد لا يكونُ في المستوى الذي بلغته هذه الخلافات اليوم ما يُمّثل خطراً محْدِقا على وحدته، لكن بعضها على الأقل يدلُ على أنها ليست إلا بداية.

وتتجه الأنظارُ في الوقت الحالي، على سبيل المثال، إلى سلوفاكيا بعد فوز حزب «اتجاه الديمقراطية الاجتماعية» في الانتخابات التي أُجريت في آخر شهر سبتمبر الماضي. فقد تعهد زعيمُه روبرت مينسو، في حملته الانتخابية، بمراجعة سياسة سلوفاكيا تجاه الحرب إذا فاز وتولَّى الحكم. وما أن شُكلت الحكومة الجديدة برئاسته حتى أعلن عدم إرسال أسلحة أو ذخائر إلى أوكرانيا.
وحين تُهدَّد بولندا، التي وقفت قلباً وقالباً مع أوكرانيا وأمدتها بالأسلحة وفتحت الأبواب واسعةً أمام لاجئيها، بوقف دعمها العسكري، فهذا ليس قليلاً حتى وإن كان مرتبطاً بأزمةٍ تجارية لا يبدو أنها انتهت بإعلان كييف التزامَها بعدم زيادة صادراتها من الحبوب إلى جيرانها. فليست بولندا وحدها الغاضبة من إرسال أوكرانيا حبوبَها الأرخص سعراً من نظيرتها المحلية، مما يثير حفيظة مزارعيها، بل المجر وسلوفاكيا أيضاً. وهذا فضلاً عن ازدياد الخلافات الداخلية على حجم دعم أوكرانيا ومداه الزمني في دولٍ أخرى لبعضها دورٌ وأثرٌ أكبر في سياسات الحلف مثل ألمانيا.
والحال أن تغيراً يُلحظُ الآن في التفاعلات داخل «الناتو»، ويجعل السؤالَ ضرورياً عن المدى الذي يمكن أن تبلغه، ومتى تصل إلى مستوى يؤثرُ في وحدة الحلف؟

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية