بعد أن فرضت حركة حماس حالة الحرب على العرب بدءا من السابع من أكتوبر في عملية استعراضية في ظاهرها صبيانية في باطنها لخلوها من كل تفكير في عواقبها ونتائجها، وبعد أن جعلت الموت والشقاء والبؤس والألم معاناة يومية للمواطن الفلسطيني في غزة، وصيرت الحزن عنوانا في كل بيت على امتداد الوطن العربي من الخليج إلى المحيط، وأعطت لإسرائيل ولنتانياهو المتعطش لدم العرب المبرر ليتمادى في عقابه الجماعي لقطاع غزة بتقتيل الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين وفي غرس مخالبه في الجسد الفلسطيني المنهك ليُلقي بالمدنيين العزل في تيه التشرد يقتلهم الجوع تأكيدا لنهج إسرائيل في الالتزام بممارسات لاإنسانية لم تتغير على مدى أكثر من سبعين عاما، فإن نصر هذه الحركة يبقى أمنية ممكنة من الأمنيات التي أرجو شخصيا من الله مخلصا أن تتحقق، ولكن «ما كل ما يتمنى المرء يدركه» فالأماني كما نعرف تبقى كذلك مسكنها طي الغيب إذا لم تتعزز بقدرات وإمكانات دول وليس بإمكانات أحزاب وتنظيمات عسكرية حياتها في الدعم الذي تحصل عليه من إيران، الدولة الكارهة للعرب.

ومع ذلك، فما يمكن أن يكون من المبشرات بأفق حل لهذا الفصل الجديد من المأساة الفلسطينية في هذه الأيام الحزينة التي تزهق فيه أرواح الأشقاء الأبرياء يوميا بالمئات، ويُشرد منهم الآلاف، ما يحدث بالتوازي مع الهجمة الصهيونية الوحشية على غزة من اتساع لحركة الاحتجاجات في دول العالم ضد ممارسات إسرائيل الشنيعة في غزة وتصاعد الإدانات الشعبية المتواصلة التي عجز الإعلام الغربي المجند في خدمة إسرائيل عن تجاهلها والتعتيم عليها، هذا فضلا عن عودة نسبية للوعي واندحار جزئي للفورة الوجدانية التي تعاطى بها أغلب العرب مع واقعة السابع من أكتوبر نتج عنهما ازدياد ملحوظ في حالة الرفض لما قامت به حركة حماس وإصرارها عليه من دون تفكير في العواقب ولا وازع من ضمير مكن إسرائيل من مبررات لشن حملتها في تقتيل الشعب الفلسطيني وإحياء جذوة مشروع التهجير الجديد الذي إذا ما تم هذه المرة، لا قدر الله، فستكون إعلاناً عن النهاية المأساوية للقضية الفلسطينية.

ما أثبتته الوقائع ووجهات النظر التي غزت مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الإخبارية المعتاشة من نقل الحروب على المباشر أن حماس مرض سرطاني متفشِ في أدمغة شريحة واسعة من العرب وخصوصاً أولئك الذين يقبعون تحت هيمنة فكر الإخوان المسلمين والمجموعات اليسارية المتطرفة، وأن هذا المرض السرطاني الذي تتغذى خلاياه على «الجلوكوز» الذي تقدمه إيران في صورة دعم لا بد من استئصاله لنعيد إلى الجسم العربي صحته، فلغة الشعارات التي ألفتها جوقات اليسار المأزوم جعلتها تنسى الهوية الإخوانية لحماس التي نُذكر بأنها إسفين دُق في الجسد الفلسطيني لتفتيت المفتت خدمة لجهة تسعى إلى قبر القضية الفلسطينية إلى الأبد، وجعلتها تتعامى عن حقيقة تاريخية موضوعية مفادها أن شعارات «إلقاء إسرائيل في البحر» و«اللاءات الثلاث» لم تُحرر شبرا واحدا من الأراضي المحتلة، بل لعلها مكنت لإسرائيل وجعلتها تتمدد لتبتلع مزيدا من الأرض الفلسطينية في كل خرجة استعراضية من استعراضات حماس.

ندرك أن ما نطرحه هنا حول ما يتعرض له الفلسطنييون في غزة منذ بداية الحرب يخالف رأي الأغلبية الساحقة من الذين ينتصرون لقرار حماس في بدء الحرب من دون أن يهتز لهم جفن رغم عِظم الخسائر البشرية وفداحتها؛ فأنا من الذين لم يصفقوا لحماس ولن أفعل، ومع ذلك أصر على الانتصار للفلسطينيين المرغمين على تقبل الموت والتشرد، وأكتب بما يمليه علي واجب الانتماء القومي حتى وإن خالفت فيما أكتب رأي الأغلبية بنقدي انفراد حركة مقاومة بقرار مصيري كقرار الحرب مع إسرائيل. لستُ هنا في وارد أن أسطر مرثية على حالنا ولست من الذين يبثون روح الانهزامية في نفوس من يعتقدون أن هذه المقاومة ستحقق نصراً على إسرائيل، ولكن في تقديري أن الصورة إلى الآن لم تظهر كاملة لمشاهد البؤس التي ستخلفها هذه الحرب المجنونة، فهي ماتزال مخفية عنا ووقعها في تقديري سيكون كارثيا على الفلسطينيين وعلى العرب، فلننتظر لنرَ ما هو مخفي.

إعلامنا العربي بكافة أدواته وأصواته الناقلة لمجريات الأحداث على أرض غزة، قومية كانت أو يسارية أو دينية، مصاب بلوثة إعلام المصري أحمد سعيد والعراقي الشهير بوصفه الأمريكان في عام 2003 بالعلوج، سعيد الصحاف، المتخصصين في قلب الحقائق بتضخيم ما كانا يريان أنه يداعب حس الإنسان العربي من إنجازات صغيرة على أرض المعركة أو تصغيرها حتى التلاشي إذا كان العدو يحققها. يضاف إلى هؤلاء إعلام تلك الجماعات التي تأطرت تحت ما سُمي بـ«محور المقاومة» حيث تقلب الحقائق رأسا على عقب. إعلام محور المقاومة متخصص في تدبيج المدائح لإيران وليده الأطول في المنطقة العربية «حزب الله»، ولعل آخر عناوين طروحاته في هذا الإعلام المراوغ ما كان يذكره قبل أكثر من أسبوع حول كلمة حسن نصرالله التي سوف تضع نهاية لمأساة الفلسطينيين.

دخول سريع قصير إلى وسائل التواصل الاجتماعي، تويتر، يوتيوب، انستغرام وغيرها، أو تصفح الغالبية العظمى من الجرائد الصادرة في البلاد العربية من شرقها إلى غربها، فإن الصورة واضحة بأن ما يجري في الواقع يتناقض بشكل قطعي مع ما ينشر في إعلام العالم الأجنبي. والواقع أنني لست على استعداد أن أساير هذا الإعلام وأتناقض مع ما يمليه عليّ ضميري وأسلم بصحة قرار أي حركة أو حزب سياسي خارج إطار الدولة. فلسطين اليوم، شئنا ذلك أم أبينا، فيها سلطة شرعية من مخرجات مفاوضات سلام جاءت بناء على تضحيات كبرى من الشعب الفلسطيني ومن شعوب وحكومات الدول العربية وليس من حق أي فصيل فلسطيني أو دولة دخيلة على مشاكل العرب، سرقة هذه التضحيات وتجييرها لصالحها.