كثر الحديث في السنوات القليلة الماضية عن قرب تحقيق الصين لهدفها بإزاحة الولايات المتحدة عن عرش اقتصاد العالم والحلول مكانها، كما تمنى الكثيرون، ولا سيما في عالمنا العربي، أن يكون ذلك مقدمة لحلول بكين مكان واشنطن في مركز صناعة القرار الكوني، وإدارة شؤون العالم، غير أن هذه الأهداف والأمنيات بات يدور حولها شك كبير، منذ بعض الوقت، فالاقتصاد الصيني ليس في أفضل أحواله اليوم، بل بات يعاني من مصاعب جمة، لعل من أبرز مؤشراته تراجع الصادرات، وتآكل ثقة المستثمرين وتباطؤ النمو، واشتداد حدة أزمة القطاع العقاري، وتراجع الاستهلاك وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب إلى ما فوق 20 %، وغيرها، فعلى صعيد النمو مثلاً، سجل الاقتصاد الصيني خلال العام الماضي نمواً بمعدل 3 % فقط (أقل معدلات النمو خلال عقود)، وأحد الأسباب هو تراجع الصادرات، حيث يعتمد الاقتصاد الصيني بشكل كبير على الصادرات، وهو ما يجعلها عرضة للتأثر بأي تقلبات في الاقتصاد العالمي.
أما السبب الآخر فهو أزمة القطاع العقاري، حيث إن الأصول العقارية هي إحدى دعامات الاقتصاد الصيني كونها رهان الكثير من الصينيين الساعين إلى زيادة ثرواتهم، لكن زيادة الطلب على العقارات أدى إلى ارتفاع صاروخي في أسعارها، وهذا حفز المطورين على توسعة أعمالهم، من خلال الحصول على قروض مصرفية ضخمة، ما حدا بالسلطات للتدخل عبر تقليص القروض، وهذا تسبب في ضعف القطاع العقاري، بل ولّد أزمة ثقة بين المطورين وزبائنهم، لتتراجع أسعار العقارات، (مؤخراً تم تعليق تداول أسهم شركة التطوير العقاري المثقلة بالديون «إيفرغراند» في سوق الأوراق المالية، ووضع رئيسها تحت مراقبة الشرطة).
من جهة أخرى لا يزال تراجع الاستهلاك، الذي بدأ خلال تفشي جائحة كورونا، بسبب عمليات إغلاق الأسواق والحجر الصحي للمستهلكين، مستمراً مع تردد ملحوظ في الإنفاق، على أمل حدوث انخفاضات إضافية في الأسعار في ظل غياب الطلب، وهذا تسبب بدوره في تدهور أنشطة بعض المنتجين، وبالتالي قيامهم بخفض الإنتاج وتجميد التوظيف وتسريح العاملين أو تخفيض أجورهم.
ومما لا شك فيه أن التوترات السياسية بين بكين وواشنطن على خلفية قضايا مثل التجارة وحقوق الملكية الفكرية وتايوان والتحالف الصيني الروسي في أزمة أوكرانيا أضرت كثيراً بالصين، وأحد آيات الضرر هو تشديد السلطات الأمريكية للقيود على صادرات أشباه الموصلات المتجهة للبر الصيني، وحث الحلفاء على القيام بالأمر نفسه تحت ذريعة الأمن القومي، وهذا- بطبيعة الحال- كان له أثر سلبي مباشر على التجارة الصينية، وعلى إنتاج السلع التكنولوجية.
إلى ذلك يندرج تحت العوامل التي أدت إلى تعثر الاقتصاد الصيني تقلص الإيرادات الأساسية لبعض السلطات المحلية، ما قيد أياديها في الإنفاق، الذي يعد أحد محركات النمو والنشاط الاقتصادي، وذلك بعد 3 سنوات من إنفاقها الهائل لمواجهة تبعات جائحة كورونا، ناهيك عن خسارتها لمداخيل وإيرادات جديدة بسبب أزمة القطاع العقاري.
وهناك عوامل أخرى أدت إلى تآكل ثقة المستثمرين في بيئة الأعمال الصينية مثل حملات الملاحقة، التي تشهدها الصين منذ عام 2020 ضد الكيانات الاقتصادية الخاصة العملاقة، ولا سيما في قطاع التكنولوجيا (مثل علي بابا وتينست وبايدو)، تحت يافطة محاربة الفساد، وهو ما جعل العديد من الشركات العاملة في «هونغ كونغ» و«شنغهاي» تشعر بقلق متزايد، بل جعلت بعض الشركات تعيد التفكير في ضخ استثمارات جديدة في البر الصيني أو في هونغ كونغ الخاضعة سياسياً للصين، خصوصاً بعد أن ألغت واشنطن الوضع الخاص، الذي كانت تتمتع به هونغ كونغ، ويتيح لها معاملة تجارية متميزة، (مذاك هرب أكثر من تريليون دولار من رأس المال الأجنبي من أسواق الأسهم الصينية).
ومن هنا لم يكن غريباً أن ينتهز الرئيس الصيني شي جينبينغ فرصة زيارته الأولى للولايات المتحدة منذ عام 2017 للمشاركة في قمة منتدى التعاون لآسيا والمحيط الهادي (إيبك)، التي استضافتها سان فرانسيسكو مؤخراً لعقد اجتماع مع رؤساء كبريات الشركات الأمريكية، بهدف حثهم على الاستثمار في الصين مع تعهده أمامهم بأن الصين عازمة على إجراء سلسلة من الإصلاحات الهادفة إلى تكافؤ الفرص وتعزيز القطاع الخاص، وزيادة قدرته على الوصول إلى رأس المال.
وقد لوحظ في أواخر الشهر الماضي حراك في اتجاه تنفيذ ما تعهد به الزعيم الصيني، حيث كشف البنك المركزي الصيني وسبع هيئات حكومية أخرى عن 25 خطوة لزيادة دور القطاع الخاص في مجموعة واسعة من الصناعات، بما في ذلك صناعة العقارات المتعثرة، التي ستحظى بالمزيد من السيولة، ومن هذه الخطوات: تحسين الهياكل التنظيمية لزيادة الكفاءة، دعم الابتكار التكنولوجي في الشركات الصغيرة والمتوسطة، إبداء قدر أكبر من التسامح إزاء القروض المتعثرة، توسيع نطاق خيارات تمويل السندات وحجمها، ليشمل المؤسسات الخاصة، التزام الكيانات المملوكة للدولة بالمعايير العالمية.
التعليقات