حتى نصل إلى "الوعي الاستراتيجي" المأمول، ونبتعد عن التفكير البسيط أو القراءات السطحية، وعدم الالتفات لمن يريد تشويه السعودية في رؤيتها الشاملة للقضية الفلسطينية القائم على حل الدولتين، وإعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة الكاملة.

بعيدًا عن الآراء التفسيرية للدور السعودي تجاه القضية الفلسطينية الواضح للجميع، أتصور أنه من الجيد استعراض مصادر الفكر الأميركية، مثل "فورين أفيرز"، وهي مجلة أميركية عريقة متخصصة في السياسة الخارجية والشؤون الدولية منذ عام 1922، يُصدرها شهريًا مجلس العلاقات الخارجية، وهو خلية تفكير مستقلة متخصصة في السياسة الخارجية، ففي العشرين من نوفمبر الماضي كتبا "آريا فانتابي" و"فالي نصر" موضوعًا استشرافيًا تحليليًا مطول من أكثر 4500 كلمة تحت عنوان "الحرب التي أعادت تشكيل الشرق الأوسط.. كيف يمكن لواشنطن تحقيق الاستقرار في منطقة متغيرة"، وقبل الدخول في التفاصيل، من المهم الإشارة إلى خلفيات الكاتبين، فآريا فانتابي هي رئيسة برنامج البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط وأفريقيا في معهد الشؤون الدولية في روما، وأما فالي نصر فهو أستاذ كرسي ماجد خدوري للشؤون الدولية ودراسات الشرق الأوسط في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز، وكان كبير مستشاري الممثل الخاص للولايات المتحدة في أفغانستان وباكستان بين عامي 2009 و2011.

سأكتفي اليوم باستعراض أبرز ما جاء في التحليل المطول، لفهم القدرة السعودية في إدارة الملف الفلسطيني، مع التنويه إلى اختلافي مع بعض حيثيات الطرح الذي اتجه له الباحثان، إلا أن ذلك لا يعني إهمال ما ذهبا إليه. يحمّل الكاتبان الإدارة الأميركية الحالية الأخطاء المرتكبة في حق القضية الفلسطينية، فضلًا عن غضها الطرف عما تقوم به الحكومة اليمينية المتشددة من توسع استفزازي للمستوطنات في الضفة الغربية، وتبلور الفشل الأميركي في حدوث هجوم السابع من أكتوبر 2023 بعد اجتياز مقاتلي حماس جدار غلاف غزة، ليصبح الشرق الأوسط والعالم أجمع تحت شعلة شديدة الانفجار، لها ما بعدها.

ومن النقاط التي استوقفتني، ما ذهب إليه الكاتبان في رؤيتهما، وفق النص التالي: "إن دعم واشطن للحرب التي تخوضها إسرائيل أدى بلا شك إلى تعريض مصداقيتها في المنطقة للخطر، وهو ما أضر بمكانتها في الجنوب العالمي على نطاق أوسع، خاصة وأن ادعاء إسرائيل بالدفاع عن النفس تحول إلى عقاب جماعي للمدنيين الفلسطينيين، وهذا يعني أنه سيتعين على الولايات المتحدة صياغة استراتيجية جديدة للشرق الأوسط، فهي على سبيل المثال، لم تعد قادرة على إهمال القضية الفلسطينية، وسيتعين عليها في الواقع أن تجعل حل هذا الصراع محور مساعيها، بل سيكون من المستحيل ببساطة بالنسبة لها معالجة قضايا المنطقة الأخرى، بما في ذلك مستقبل العلاقات العربية الإسرائيلية، إلى أن يكون هناك طريق موثوق به إلى دولة فلسطينية مستقبلية قابلة للحياة".

ويرى الكاتبان أن صياغة استراتيجية جديدة للشرق الأوسط، لن يكون من دون شراكة حقيقية مع المملكة العربية السعودية، التي تتمتع بعلاقات ومصداقية عالية على مستوى المنطقة والعالم الإسلامي ككل، كما يمكن للرياض استخدام نفوذها الموسع للمساعدة في إحياء المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، ومساعدة الولايات المتحدة في التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، كما يمكن للرياض وواشنطن معًا إنشاء الممر الاقتصادي في الشرق الأوسط الذي تحتاجه الولايات المتحدة لتحقيق التوازن في مواجهة الصين.

وختم الكاتبان رؤيتها برؤية جديرة بالتأمل، وهو برأي مهم جدًا للتفكر فيه على المستوى الاستراتيجي، وهو "أن الحرب في غزة قد تعزز من تفوق السعودية من خلال منحها الفرصة لتحقيق الاستقرار في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فالقمة العربية الإسلامية الاستثنائية المشتركة، التي نظمتها وضمت زعماء من مختلف أنحاء العالم العربي، بالإضافة إلى إيران وتركيا، خطوة أولى في هذا الاتجاه، وخلافاً لمصر أو الأردن أو الدول الأخرى التي تتوسط عادة بين إسرائيل وخصومها، فإن الرياض تتمتع بالمصداقية والعلاقات الإقليمية اللازمة للمساعدة في التوصل إلى اتفاق سلام حقيقي، وإذا ما تم ذلك، فإنها ستعمل مع شركاؤها على بناء إطار شامل للأمن الإقليمي الذي يجب أن يتضمن قواعد وخطوط حمراء متفق عليها على نطاق واسع من قبل جميع الأطراف".. دمتم بخير.