تسابق اسرائيل الزمن لكنه يسبقها، لقد طال أمد الحرب أكثر مما كان مجلس حربها يتوقع، فشل استخباري جديد يضاف إلى الإخفاق في توقع شن "حماس" عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول (أكتوبر). لم يتصور الجيش ولا الاستخبارات وجود هذا العدد من الأنفاق تحت أرض غزة. انه أكثر بعشرات المرات مما كانوا يتوقعونه، وما زالت الحرب تخبئ المزيد من المفاجآت المخفية تحت الأرض والتي يظهر سير الحرب الكثير منها يومياً. إنها الحرب الأقسى في تاريخ الحروب التي خاضتها إسرائيل منذ 1948 ضد الجيوش والتنظيمات والتي بعد ثمانين يوماً لم تحقق إنجازاً يمكّنها من استثمار كل الخراب الذي أحدثته في غزة وكل الخسائر التي مُنيت بها في الأرواح والاقتصاد، والسمعة.

تخسر إسرائيل كل يوم في الميدان جنوداً وآليات عسكرية، وتتحطم الصورة والرواية المحبوكة بإتقان عن الدبابة المعجزة الميركافا وعن الجندي الذي لا يقتل والبندقية التي لا تخطئ والصاروخ الفائق الذكاء.. وتخسر المصانع والمزارع وتقفل المؤسسات.

وإذا كان الحديد والسلاح تعوضهما أميركا وغيرها، وإذا كان المال يمكن أن يأتي من مصادر متعددة، وإذا كان القتلى سينسون بعد قليل، فإن أخطر ما بدأت تواجهه إسرائيل وستواجهه في المستقبل هو انهيار جدار عال من بناء الكذبة التي أحاطت نفسها بها على مدى خمسة وسبعين عاماً، وتحطم ما اعتبرته "سمعتها" وأشاعته في العالم.

لم تكسب إسرائيل الحرب رغم كل الدمار الذي ألحقته بغزة والقتل الذي نشرته في كل حي وبيت، والعذاب الذي سامت كل روح فيها والحزن العميم الذي بثته في أرجائها. لم تكسب الحرب ولن تكسبها حتى لو محت عمران غزة من الوجود. لن تكسب لأن الانتصار في الحرب لا يقاس بعدد الناس الذين تقتلهم الطائرات والدبابات والمدافع، وإلا كانت كل الحروب وكل الثورات على الطغيان التي حررت الشعوب والبلدان خاسرة.

يقود نتنياهو حرب وجوده شخصياً هو وزمرته من مجرمي الحرب. أعلنها أمس بصراحة في الكنيست أن لا وقف للحرب التي ستطول، غير عابئ بصرخات أهالي الأسرى لدى "حماس" الداعين إلى التفاوض لإطلاق سراحهم. الحرب ما زالت طويلة ونتنياهو حصل بالتأكيد على دعم أميركي من بايدن شخصياً وعلى رضا فرنسي وبريطاني بعد اتصالات أجراها بإيمانويل ماكرون وريشي سوناك. باتت المعادلة الأميركية واضحة ورسالة بايدن إلى نتنياهو هي: امض في حربك إلى ما شئت لكن أعطنا ورقة المساعدات إلى غزة. دع العالم يدخل المزيد من قناني المياه وبعض الغذاء والخيم والمحروقات التي تمنع الموت جوعاً وعطشاً ولا تملأ البطون ولا تدفئ الأجساد.

فيما إسرائيل تتوغل في غزة بوحشية ستظل طويلاً تطبع تاريخها وتاريخ المنطقة، يشهد العالم بأسره تحولات كبيرة لدى النخب الثقافية والفنية ولدى العموم في كل أنحاء العالم. صورة إسرائيل عن نفسها تهتز بعنف والرواية المزيفة عن الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط وعن دولة "المضطهدين" المهددة من محيط معاد عنيف تنكشف على حقيقتها. إسرائيل الآن في الإعلام وعلى منصات التواصل مجرد آلة قتل مبرمجة. روبوتات تدمر ثم تقتل كل من يظهر أمامها، حتى لو كان إسرائيلياً. إنها الوحشية الخالصة. ولن تستطيع أن تخرج من هذه الحرب إلا مدماة كما دخلتها.

لن يعود شيء كما كان قبل حرب غزة، خصوصاً عن إسرائيل وفيها. أولمرت وكبار المحللين الإسرائيليين أدركوا أن كل شيء يتغير، وأن إسرائيل لا يمكن أن تعيش بالسياسات نفسها وبالأفكار نفسها. لقد آن أوان القرار الكبير وهو الاعتراف بأن سياسة إنكار وجود شعب فلسطيني وإنكار وجود مشكلة هي الاحتلال لن ينفيا إطلاقاً وجود القضية. يذهب بعضهم إلى حد القول إن إسرائيل ستزول قبل بلوغها القرن من العمر (أكثر دولة يهودية في التاريخ القديم لم تعمر أكثر من ثمانين سنة). ربما بات حل الدولتين حلاً للمشكلة الإسرائيلية وليس للفلسطينيين.

ليس تفصيلاً ما يشاهده العالم وما يسمعه من غضب على استمرار المجزرة في غزة، ومن تعاطف مع ضحاياها حتى في بلدان عرفت بتأييدها الفظ لإسرائيل في كل حروبها، كهولندا التي احتفل رواد أحد مراكزها التجارية الكبرى بليلة الميلاد بإطلاق الأغاني والبالونات رفضاً للمجزرة، وليس مؤشراً ضئيلاً الانخفاض الكبير في شعبية جو بايدن على أعتاب الانتخابات الأميركية ولا تدهور شعبية ريشي سوناك في بريطانيا.

تفقد إسرائيل اليوم صورتها المزيفة عن نفسها، الصورة الجديدة التي تتبلور هي الصورة الحقيقية، وهي صورة نظام فصل عنصري ووحشية طفيلية تعيش على الدعم الدولي وتقتل الناس على حساب دافع الضرائب في الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا ودول أخرى، في وقت ربما لن يعود الغرب في وقت قريب بحاجة لرأس حربة مكلف إلى هذا الحد في هذا الشرق.