لا أحد في الخارج يراسل أو يخاطب بيروت الرسمية إلا شكلياً. الرسائل تأتي على الباقي من العناوين لأهل الكراسي، ومنهم إلى «حزب الله». لا فقط في مسائل القرار 1701 وقوات «اليونيفيل» والتراشق الصاروخي مع إسرائيل ومخاطر تصعيده الى حرب شاملة واستعداد المستشار الأميركي آموس هوكشتاين للتفاوض على إظهار الحدود البرية بعد الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية بل أيضاً في شؤون داخلية. واللعبة تدار كأنه لم يبق في لبنان شأن داخلي. كلها شؤون خارجية. حتى ما له جانب محلّي، فإن جانبه الآخر خارجي. أما المخاطبات العملية حول أمور عدة، فإنها بين واشنطن وطهران عبر عواصم بلدان صغيرة تُعطى أدواراً مفيدة لا يستطيع الكبار القيام بها.

ذلك أن لبنان الذي تتراكم فوقه منذ عقود الأثقال الفلسطينية والسورية والإسرائيلية والإيرانية بات عاجزاً حتى عن الوقوف ومطلوباً لمهمة تتجاوز مهام أشقائه العرب. فكل بلد عربي له ارتباط بالقضية الفلسطينية التي تعتبرها القمم «القضية المركزية»، بما فيها بلدان معاهدات السلام وبلدان «إتفاقات أبراهام» مع إسرائيل. لكنه ارتباط سياسي وخطابي وتضامني، لا عسكري منذ صار الإعتبار أن حرب 1973 آخر الحروب العربية الإسرائيلية و»السلام خيار إستراتيجي». لا بلد يجمّد مؤسساته ويؤجل تكوين السلطة ويبقى في العراء لأنه مرتبط بقضية فلسطين، ومتعاطف مع غزة في مواجهة حرب الإبادة الإسرائيلية، وينتظر التطوّرات من حوله.

إلا لبنان المرتبط سياسياً كسواه، فإنه محكوم بالارتباط عسكرياً. هو في حرب عنوانها «مشاغلة» العدو من أجل غزة. وهو في هاوية أزمات سياسية ومالية واقتصادية واجتماعية لا عمل للخروج منها، لأن كلفة الخروج إصلاحات ضد مصالح المافيا السياسية والمالية والميليشيوية المتسلطة. لا رئيس للجمهورية ليخاطبه العالم ويخاطب أحداً. لا مؤسسات إلا مشلولة أو معطلة. لا إعادة تكوين السلطة، حتى في إطار البلديات. ولا حكومة إلا لتصريف الأقوال والمصالح الضيقة.

وليس ذلك مجرد تراكم أخطاء أو صراعات «بلدية» على السلطة والمال. هو شغل مخطط يتمّ تنفيذه على مراحل، وحسب ما تسمح الظروف. مخطط ضمن مشروع إقليمي بالغ الطموح يستخدم «وحدة الساحات ومحور المقاومة» كوسائل. فلا قضية فلسطين بالنسبة الى أصحابه سوى مرحلة ومحطة على الطريق. ولا لبنان مرتبط فقط بحرب غزة ومستقبل «حماس والجهاد الإسلامي» وقضية فلسطين وشعار التحرير من البحر الى النهر ومعارضة «حل الدولتين» بل أيضاً بمشروع إيديولوجي في الغيب. مطلوب منه التكيّف مع شيء لا مثيل له في دولة هو «خصخصة» الحرب على يد «حزب الله» الذي قادت حساباته حالياً الى إعطاء أدوار صغيرة رمزية لفصائل فلسطينية مختارة. لا بل «خصخصة» الحرب في إطار العمل على «تأميم» البلد لمصلحة «محور المقاومة»، وتجنيده في حرب دائمة من أجل المشروع الإقليمي، وخلق واقع غير عادي.

و"مرحباً بكم في صحراء الواقع" كما قال الفيلسوف الفرنسي جان بودريار.