ما يبدو سهلاً في البداية هو الصعب في النهاية. وليس أصعب من «عسكرة» لبنان سوى بناء دولة حقيقية فيه. ولا أكثر من العوائق أمام «العسكرة» سوى الموانع والحواجز على الطريق الى بناء دولة. صحيح أن «عسكرة» الطوائف فرضت نفسها خلال حرب لبنان التي انخرطت فيها قوى إقليمية ودولية وظّفت الطوائف في خدمة أهداف مختلفة عن الأهداف المعلنة وتصورات الطوائف الميالة الى قراءات ذاتية وخاطئة في سياسات الآخرين من حلفائها وأعدائها. لكن الصحيح أيضاً أن الكوارث التي قادت اليها «العسكرة» والقراءات الخاطئة علّمت الجميع دروساً قاسية دفعت نحو الرفض القوي لتكرار التجربة ولعبة السلاح. وليس من السهل على «حزب الله» مهما تكن قوته وقوة المحور الذي ينتمي إليه بقيادة إيران «تطويع» لبنان في حرب دائمة مرتبطة بما هو أبعد من قضية فلسطين ومواجهة الخطر الإسرائيلي.
ذلك ان «عسكرة» لبنان تصطدم في البداية، والنهاية بخمسة عوائق على الأقل. الأول هو طبيعة المجتمع اللبناني وتركيبته وأسلوب الحياة فيه والتي غلبت على كل انواع الإيديولوجيات وأجبرت أصحابها على التكيف مع عادات اللبنانيين. والثاني ان «العسكرة» ولو لم تكن إيديولوجية مذهبية، هي ضد طبائع الأمور ومجرى الأحداث في العالم العربي الذي أجمعت قممه على الإعلان أن «السلام هو الخيار الإستراتيجي» وأن التوجه هو نحو التنمية والتكنولوجيا وبناء المستقبل. والثالث أن إيران ليست اللاعب الإقليمي الوحيد في لبنان، وسط لاعبين دوليين يتنافسون على النفوذ في العالم لكنهم يلتقون على نقطة أساسية هي الحفاظ على لبنان ودوره ضمن توازن القوى في المنطقة. والرابع أن تجارب أرجحية طائفة على الطوائف الأخرى فشلت بكل أشكالها، ورغبة أي طائفة كبيرة في إخضاع الطوائف الأخرى مهمة مستحيلة. حتى قوة السلاح، فإنها ستؤدي في النهاية الى مواجهة سلاح آخر. والخامس أن مشروع الحرب الدائمة محكوم بمواجهة مشاريع مضادة له وأقوى منه.
أما بناء الدولة الوطنية الحقيقية المسماة دولة الحق، لا مجرد دولة القانون، فإن الحواجز كانت على طريقه منذ الإستقلال. وأبرز تلك الحواجز أربعة. الأول ان نظام المحاصصة الطائفية يحول حتماً دون بناء دولة وطنية. والثاني أن الدستور المعلق اليوم لفرض الشغور الرئاسي كان شبه معلق منذ 1926، حين قدم ميشال شيحا مسودة الدستور أمام البرلمان وقال: «هذا دستور لبنان الرسمي، أما الدستور الحقيقي فهو أن لبنان لا يُحكم إلا بالتسويات». والتسويات، إن حدثت، تأتي من خارج الدستور، وغيابها يعني التسليم باللادستور. والثالث أن أمراء الطوائف هم، بحكم المصالح، ضد وجود دولة تحد من سلطاتهم الأقوى من السلطة الرسمية، وتحمي المال العام من السطو والفساد. والرابع أن القول المنسوب الى مستشار النمسا مترنيخ او الى ميشال شيحا عن «لبنان هذا البلد الذي من واجب التقاليد ان تصونه من العنف» يصطدم في الواقع بدورات العنف التي ضربت لبنان ومعظمها لأسباب لا علاقة له بها.
كان الرئيس فرنسوا ميتران يقول: «الأنظمة الإستبدادية تجد في كل أزمة مذنباً لكنها لا تجد حلاً». اما النظام الهجين في لبنان، فإنه لا يجد في أية أزمة ولا في سرقة العصر في المصارف مذنباً ولا حلاً.
- آخر تحديث :
التعليقات