لا ينسى محبو السينما فيلم «إنه عالم مجنون مجنون» الذي عُرض عام 1963، ولقي إقبالاً واسعاً في كثيرٍ من البلدان. لم يكن العالم السياسي، أي عالم الدول والعلاقات بينها، هو المقصود، بل عالم الأفراد وتفاعلاتهم.
كان العالم السياسي وقتها عاقلاً، بدليل سرعة احتواء أزمة الصواريخ الكوبية، وتجنب حرب نووية كانت وشيكةً قبل أشهرٍ من عرض ذلك الفيلم. كان العالَم وقتها أعقل منه الآن. ومع ذلك لم يصل عالمُ اليوم إلى الجنون، لكنه صار أكثر توتراً من أي وقت مضى بعد الحرب العالمية الثانية.

ويبدو عام 2023، الذي ودعناه للتو، الأكثر توتراً منذ ذلك الوقت، في عالم يعودُ إلى الوراء بقوة دفعٍ مثيرة للقلق. ولعل جديد عام 2023 الأهم في هذا المجال أنه شهد تناقصاً في الحركية «الديناميكية» الإيجابية لحل الصراعات، ومد الجسور والسعي إلى السلام، وفقداناً للبوصلة التي تحدد الاتجاه إلى الأمام.
وفي هذه الحالة يصعب تجنب ازدياد التوتر، ومن ثم العنف، في العلاقات الدولية، وتعطيل الآليات والقواعد القانونية التي طالما أسهمت في احتواء أزماتٍ كبيرة وتسوية خلافاتٍ حادة. ولهذا نشبت حربٌ في غزة في خريف العام، وظلت مستمرةً مع مطلع 2024، في الوقت الذي تتواصل حرب أوكرانيا التي يُنظر إلى منع توسعها عسكرياً كما لو أنه غايةُ المُراد، في ظل العجز عن وضع حدٍ لها طوال ما يقربُ من عامين.

لكن خطر توسع حرب غزة، في المقابل، مازال قائماً؛ فالتوترُ شديدٌ على الحدود الإسرائيلية اللبنانية مع استمرار الضربات المتبادلة. ويمكن لأي خطأ في الحسابات أن يُحوِّل المناوشات الحالية إلى معارك أكبر وأوسع. وما برح الخطر على حرية الملاحة عبر باب المندب مستمراً بعد تشكيل تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة بهدف تأمينها.

ويُخشى أن يزداد التوتر عام 2024، ويؤدي إلى تحولات خطيرة على صعيد العلاقات الدولية في ظل استمرار العجز عن حل الصراعات وتجنب الحروب، وخفوت أصوات السلام. وقد تخسر البشرية، في هذه الحالة، إنجازات كبيرة تحققت في مجال السيطرة على التوترات وتقليص العنف في العلاقات الدولية. وارتبطت هذه الإنجازات بإحلال قواعد قانونية دولية حديثة محل قاعدة التغلب العُرفية البدائية، أملاً في تحقيق السلام والعدل في أرجاء العالم، وهو أمل لم يتحقق كاملاً بعد، بل ظلت القوة عاملاً أساسياً في العلاقات الدولية، لكنها هُذبت فصار الأقوى في حاجةٍ إلى غطاء أخلاقي وقانوني حين يستخدم القوة. وهذا ما يجب على الدول التي تؤمن بالسلام والحوار والتعايش أن تسعى إلى المحافظة عليه، ومواجهة خطر التراجع عنه، ومحاصرة الآثار السلبية لحربي أوكرانيا وغزة عليه. ولا سبيل إلى ذلك إلا العمل بالسرعة الممكنة لاستعادة قوة الدفع الإيجابية باتجاه مد جسور تصدعت أو حُطِمت، وفتح قنوات حوار أُوصدت، عسى أن يكون عام 2024 بداية نهاية التوتر الآخذ في الازدياد منذ عام 2021.
*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية