يقع لبنان أسير مغامرة الرهانات على عدم توسع الحرب في التكتيكات العسكرية والسياسية للطرفين المعنيّين بتطور المواجهات العسكرية في المنطقة، فيستحيل عليه سلوك خيار فصل جبهته الجنوبية المشتعلة، عن الحرب الدائرة في غزة.

لكن المشكلة أن هذه الرهانات تستند إلى اتكال إيران على ثبات الإدارة الأميركية في خيارها عدم توسيع الحرب الإسرائيلية على غزة من جهة وإلى اتكال واشنطن على بقاء إيران على قرارها عدم الانجرار إلى توسيع الحرب من جهتها. الأصح أن كلاً من الدولتين يتكل على أنه ليس في مصلحة الدولة المقابلة خوض الحرب الشاملة التي تشمل إذا وقعت، خمس دول عربية هي اليمن، العراق، سوريا، لبنان وفلسطين، بالإضافة طبعاً إلى إسرائيل وأميركا التي لا بد من أن تتورط في هذه الحال، فتلحق بها إيران إلى ميدان المجابهة بالحديد والنار.

وإذا كان مفهوماً أن يشمل منع توسع الحرب الدول العربية الخمس المذكورة، فإن مؤشرات التورط الأميركي أخذت تظهر من خلال عمليات القصف التي نفذها الجيش الأميركي لمواقع تابعة للحوثيين في اليمن، والتي ينتظر أن تستمر في المرحلة المقبلة. بهذا القصف، وقبله استُهدف المسؤول العسكري لحركة «النجباء» في العراق... لم تعد وظيفة الوجود العسكري الأميركي في البحر الأبيض المتوسط وبحر العرب ومياه الخليج تقتصر على مهمة الردع والحؤول دون توسع الحرب، ورسم خط أحمر حول أمن إسرائيل... فواشنطن انزلقت إلى الأعمال القتالية التي كانت تأمل بأن يعفيها منها الحشد العسكري عليها.

مظاهر التورط الإيراني في الحرب، بدأت نماذج منها بالقصف الذي نفذه «حرس الثورة» الإيرانية قبل يومين في أربيل. فطهران دخلت المواجهات العسكرية في شكل مباشر، بدلاً من أن تبقى مختبئة خلف الهجمات التي نفذها بالنيابة عنها «أنصار الله» اليمنيون في البحر الأحمر ضد السفن المتجهة إلى إسرائيل، وعوضاً عن أن تقف خلف «الحشد الشعبي» العراقي المتخفي بعباءة «المقاومة الإسلامية»، لاستهداف الوجود العسكري الأميركي في سوريا وبلاد الرافدين، وبدلاً من اعتمادها على «الردود المحسوبة» التي ينفذها «حزب الله» انطلاقاً من جنوب لبنان.

بات خطر توسع الحرب أقرب إلى الواقع، نظراً إلى انخراط قطبيها المباشر في الأعمال العسكرية في الأيام الماضية، ما يرفع نسبة احتمال انفلات جبهات المواجهة عند حصول أي حادث لا يحتمله الخصم.

إدارة الرئيس جو بايدن ودول الغرب تدير الحرب على غزة، بهاجس الحرص الذي لا مجال للتشكيك فيه، على ضمان استعادة إسرائيل هيبة جيشها وأمن حدودها وقدرتها الردعية، بعد عملية «طوفان الأقصى» رغم الخلافات بينها وبين رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو وبعض الوزراء المتطرفين. في اختصار لا تريد إدارة بايدن أن يكون الانتصار الإسرائيلي على «حماس» وغزة والفلسطينيين ملتبساً. بل تريده أن يكون واضحاً. وهي لهذا السبب تشارك حكومة الحرب في الدولة العبرية، رفضها وقف إطلاق النار وتستعيض عنه بـ»خفض كثافة القتال»، لإطالة العمليات العسكرية وللإيحاء للرأي العام بأنها تسعى للحلول السياسية والدولتين.

أما طهران فإن انغماسها في التراشق الصاروخي ضد الوجود الأميركي وفي إنزال قواتها البحرية إلى البحر الأحمر، هو انخراط مباشر، ولم يعد مقتصراً على الخطابية والتهديد. والمرشد أعطى توجيهاته علناً بقوله «فلتبقَ جبهة المقاومة على أهبة الاستعداد... ولا تغفلَنَّ عن مكر العدو ولتضرب حيث تطال يدها بعون الله»... فمحور الممانعة هو الآخر يطمح إلى ضمان عدم شل قدرات «حماس» العسكرية ما يعتبره انتصاراً لها وله ولطهران، إذا صمدت الحركة.

انخراط واشنطن وطهران المباشر في الميدان يعود إلى أن ميزان القوى الذي سينتج عن الحرب، سيحدد موقع بعض دول وقوى المنطقة المستقبلي في التسويات ودورها في المفاوضات. كيف في هذه الحال يمكن إقناع الممانعين في لبنان بفك الارتباط بين جبهة جنوب لبنان وبين الجبهة في غزة، إذا كانت نهاية الحرب ستحدد ما سيحصل عليه كل فريق من مكاسب؟