التطورات الدراماتيكية التي شهدتها العلاقة الثنائية بين إيران وباكستان بعد قيام القوة الصاروخية في حرس الثورة الإسلامية الإيراني باستهداف مواقع داخل الأراضي الباكستانية، ضمن عملية وصفتها بأنها استباقية لمنع جماعة "جيش العدل" البلوشي المعارض من القيام بعملية أمنية داخل الأراضي الإيرانية، ورداً على الأعمال السابقة التي قام بها خلال الشهرين الماضيين ضد مواقع للشرطة في مدينة راسك بمحافظة سيستان وبلوشستان وحرس الحدود التابع للحرس الثورة، جاءت بعد يوم واحد من استهداف مماثل لأحد المنازل في مدينة أربيل، مركز الإقليم الكردي العراقي، بذريعة استخدامه كمقر لأنشطة جهاز الـ "موساد" الإسرائيلي.
هذه العملية استدعت رداً باكستانياً مماثلاً ومركباً من صواريخ وطائرات مسيرة، مما استتبع توتراً غير مسبوق في العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين البلدين وصل حد استدعاء السفراء وقطع العلاقات أياماً عدة، قبل أن تتم عملية استيعابه وترميم الخلاف بينهما.
إلا أن ما يستدعي التوقف عنده في هذه التطورات، وعلى رغم حساسيتها وما يمكن أن ينتج منها من تداعيات، هو أن قرار العملية العسكرية في الجانب الإيراني جاء من خارج المجلس الأعلى للأمن القومي وحتى من دون وضع وزارة الخارجية الإيرانية، بالحد الأدنى، في أجواء مثل هذا القرار، لتكون على استعداد للتعامل مع تداعياته أو تأثيراته السلبية.
واستبعاد المجلس الأعلى للأمن القومي والإدارة الدبلوماسية من القرار وعدم وضعهما في أجواء هذه العملية يكشف حجم الاستفراد الذي تمارسه المؤسسة العسكرية في قيادة مواقف النظام والدولة على حد سواء، والتي يبدو أنها وصلت إلى مستوى متقدم من إحكام قبضتها على مفاصل القرار، ولم تعد تشعر أنها بحاجة إلى التنسيق مع الجهات المعنية بالقرار الإستراتيجي التي تتولى مهمة إدارة مثل هذه المسائل والقرارات.
واجتماع المجلس الأعلى للأمن القومي بعد يوم من عملية استهداف الأراضي الباكستانية ويومين على استهداف أربيل العراقية لم يكن من أجل تقويم فعالية هذه الضربات، بل من أجل البحث عن آليات لوقف التداعيات السلبية وانعكاساتها على العلاقات الإيرانية مع دولتي باكستان والعراق، وبالتالي وضع إطار أو خريطة عمل، ورسم سقف التحرك الذي من المفترض أن تقوم به وزارة الخارجية لمعالجة الآثار السلبية لهذه العملية، وبالتالي تحويل مهمة هذا المجلس والإدارة الدبلوماسية إلى إدارات لمعالجة تبعات وتداعيات ما تقوم به المؤسسة العسكرية وقيادات حرس الثورة وإبعاد المساءلة عن أنفسهم، أو في أحسن تقدير تكليف المؤسسة الرسمية بترميم ما يقومون بتخريبه أو ارتكابه.
ويبدو أن قيادة حرس الثورة وصلت إلى مرحلة من الثقة بالنفس تدفعها إلى عدم الأخذ في الاعتبار أي دور للحكومة وإداراتها المعنية بأي قرار أو موقف ذي أبعاد إستراتيجية وأمنية، حتى وإن كان يؤدي إلى إدخال إيران في نفق مظلم ويضعها في دائرة الاستهداف، أو الدخول في أزمات يسعى رأس النظام إلى الابتعاد منها، لما لمثل هذه الأعمال من تداعيات سلبية قد تهدد بقاء واستمرار النظام، وهذه الثقة أو الاستخفاف أو الشعور بعدم وجود ضرورة للتنسيق بين المستويين السياسي والعسكري لدى قيادات الحرس برز بصورة واضحة في التسجيل المصور لقائد القوة الصاروخية في الحرس الجنرال أمير علي حاجي زاده، والكيفية التي تحدث بها مع قياداته العليا لإبلاغها بتنفيذ عملية الاستهداف الصاروخي.
وعدم وضع المجلس الأعلى للأمن القومي و"الخارجية الإيرانية" في حيثيات الموقف العسكري ونية هذه القيادة توجيه ضربة صاروخية داخل الأراضي العراقية والباكستانية يقع في الجهة النقيضة لما أكده المرشد الأعلى للنظام خلال رده على وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف في معرض انتقاده دور الميدان في تحديد السقف الذي تعمل ضمنه الدبلوماسية الإيرانية خلال الأزمات، فالمرشد في خطاب له مطلع مايو (أيار) عام 2021 حدد مهمات الجهاز والإدارة الدبلوماسيين بأنها "إدارة تنفيذية لا علاقة لها برسم السياسيات الإستراتيجية للنظام، وأن شراكتها في صياغة أي موقف أو رؤية شراكة محدودة في إطار المجلس الأعلى للأمن القومي".
والمرشد الذي سعى إلى تأكيد موقعه في سياقات اتخاذ القرارات الإستراتيجية للنظام والدولة، وأن هذه السياسات تمرر عبر الهيكليات الموجودة في مؤسسات الدولة أو عبر التوجيه المباشر منه، حاول في هذا الموقف القديم رسم العلاقة بين الميدان والدبلوماسية، أو في تعبير أوسع بين المؤسسة العسكرية ومؤسسة الدولة، وأن تكون هاتين المؤسستين في خدمة الأخرى من أجل تحقيق أهداف النظام الإستراتيجية، حتى وإن كان على حساب دور الإدارة الدبلوماسية التي جعلها غير مقررة ولا تملك رفاهية المبادرة إلى اتخاذ أية خطوة خارج الإطار المحدد لها أو السياقات المرسومة لدورها، وبالتالي فهي ملزمة بتنفيذ ما يتم اتخاذه من قرارات تصدر عن مجلس الأمن القومي أو توجيهات المرشد الأعلى.
ويبدو أن نشوة ما تعتبره هذه القيادات في الحرس إنجازاً عسكرياً تشهده الساحة الإقليمية من قطاع غزة إلى الضفة الغربية في فلسطين، مروراً بالجنوب اللبناني ووصولاً إلى باب المندب وما تقوم به "جماعة الحوثي"، وعدم قدرتها على توظيف هذه الأحداث وتبنيها مباشرة، لم يترك لها خياراً سوى ممارسة السياسة التي رسم معالمها الأمين العام لـ "حزب الله" في لبنان حسن نصرالله والقيادة العسكرية لـ "كتائب الأقصى"، والتي لُخصت في مقولة "الكلام للميدان والسياسة تأتي لاحقاً"، مما يفتح الباب أمام إمكان وجود طموحات لدى هذه القيادات تتخطى عملية الرد على الخسائر التي لحقت بها خلال الأسابيع الأخيرة مع عمليات اغتيال قيادات مهمة وكبيرة، من خلال التأسيس لحسم ترددها بالخروج من تحت عباءة ثنائية "الميدان والسياسة" وتغليب الميدان، وما قد تؤدي إليه من إمكان وضع إيران في مواجهة خطوة مصيرية تفرض فيها المؤسسة العسكرية سيطرتها على كل مفاصل القرار في النظام والسلطة، من دون قفازات أو حاجة إلى معادلة المرشد والحرس.
التعليقات