أقول إننا لو تركناهم ينفذون الخطط والمشروعات التي أعدّوها لنا ولغيرنا، بل ولهم هم أنفسهم، لوجدنا أنفسنا بغير إرادتنا في عالم غير عالمنا، ونحو مصير غير ما كنا نود، وكل بلادنا بحدود غير ما سبق ورسم لنا. أراهم وأرانا على النحو التالي:
*أولا: دولياً. أرى نظاماً دولياً يخطو متأرجحاً بين مكونات وقواعد عصر هيمنة أمريكا على العالم، وبين مكونات ناشئة لعصر قطبية ثنائية، أو تعددية وقواعد لها. هذه القواعد يجري العمل حالياً على صياغتها بدأب، من خلال توترات وعنف وعدم استقرار ومنافسة شرسة وحروب صغيرة عدة، وصل عددها في الشرق الأوسط وحده عشرة صراعات، كلها وغيرها من طباع المراحل الانتقالية.
أرى أمريكا تخرج أكثر ارتباكاً وانحداراً من تجربتها الأوكرانية، وتجربة الإبادة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، تخرج منهما فاقدة رصيداً مهما من الثقة المتبادلة، والضرورية داخل الحلف الغربي. تخرج، مثل ألمانيا، مثخنة بجراح ناتجة عن سوء تصرف، وانصياع لضغط صهيوني، كلاهما شارك في خلقه قبل أن يستسلما له.
أرى الصين تزداد قوة، وتقدماً اقتصادياً، ونفوذاً دولياً، وأرى الجنوب، بصفة عامة، أكثر اقتراباً منها، وتفهماً لسياساتها، وأملاً في استمرار صعودها. أرى روسيا تستعيد الثقة بنفسها، والقوة اللازمة للاحتفاظ بمكانتها كقطب من أقطاب القمة الدولية.
*ثانياً: إقليمياً. أرى النظام العربي بسبب أزمته الراهنة وفشله في الخروج منها، وتحت ضربات متعاقبة وضغوط خارجية يقترب من الانفراط. كان مثيراً للاهتمام والتحليل مراقبة ومتابعة مواقف دول النظام العربي من أزمة غزة. رأينا تناقضاً لافتاً. أثبتت الأزمة، أو كشفت عن ضعف شديد لدول النظام منفردة في المواجهة بين الدول أعضاء النظام.
تعددت الاختراقات. اختراق إسرائيل برفضها الاعتراف بوجود شعب فلسطيني، وتأكيد هذا الرفض بحرب مدمرة، وحركة استيطان ضخمة، وخرائط صريحة، تلغي بها عروبة دول مشرقية مؤسِّسة للنظام العربي، وأراضي ممتدة غرباً حتى قناة السويس. اختراق إسرائيل بعد أن كان عاملاً ساهم في تأسيس النظام العربي في الأربعينات من القرن الماضي، أصبح بتوحشه، وبالتطور الحادث في النظام الدولي وبالانحدار الأمريكي إلى حد الخضوع المهين لإسرائيل أهم عناصر تفكيك النظام العربي.
*ثالثاً: فلسطين. ليس خافياً أنهم في إسرائيل، وفي أمريكا، يعدّون، أو يستعدون لفلسطين بما أطلقت عليه الصفقة القاتلة. يتحدثون بدم بارد عن دولة في مستقبل، ليس بالضرورة قريباً، دولة منزوعة السلاح، بمعنى دولة مفتوحة الحدود أمام إسرائيل لتفعل بها ما تشاء، وقتما تشاء، دولة ناقصة السيادة، يعنى لا حق لشعبها في الدفاع عن نفسه، دولة مقطّعة الأجزاء مثل قالب الجبنة السويسرية، تشبه جنوب إفريقيا في زمن الأبارتايد، بمعنى آخر، دولة محكوم على شعبها في آخر المطاف بالهجرة، أو العذاب والقمع.
المدهش في الموضوع أن المخططين لمستقبل فلسطين يتحدثون عن ضرورة إصلاح الحكومة القائمة الآن في رام الله، أو إقامة حكومة بديلة مختارة بعناية من جانب إسرائيل. آخرون، وهم حسب ظني الأغلبية الحاكمة في إسرائيل، لا تخفي عزمها على إنهاء الصراع بمحو اسم فلسطين من خرائط السياسة في الشرق الأوسط.
التعليقات