جمهورية جنوب إفريقيا صاحبة أكثر الدول تنوعاً في السكان في القارة الإفريقية وتحتضن أكثر عدد من السكان من أصول أوروبية، وأكبر تجمع سكاني هندي خارج القارة الآسيوية، ومن البشرة السوداء يأتي العدد الأكثر، هذه الدولة عانى سكانها خاصة الذين بشرتهم تميل إلى السواد من التفرقة العنصرية والقتل الجماعي سيئة السمعة لعقود كثيرة.

والمثال الأبرز لهذا أن مانديلا الرياضي - الملاكم كان زعيماً قوياً بارزاً وعدواً ضد تلك التفرقة العنصرية، وكان نصيبه السجن لـ(29) عاماً ليغادره بعدها ويصبح رئيساً منتخباً ديمقراطياً لتلك البلاد، وليتم القضاء على العنصرية (العفنة) في تلك الديار.

ولأن جنوب إفريقيا اكتوت بنيران ذلك المرض الخبيث (العنصرية) والقتل الجماعي، فهي أدركت وتدرك معاناة الشعوب الأخرى التي ترزح تحت نير الاستعمار والتمييز العنصري لذا جاءت مبادرتها على شكل دعوى رفعتها ضد إسرائيل متهمة إياها ارتكاب إبادة جماعية بحق المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة.

والمحكمة المختصة هي محكمة العدل الدولية بلاهاي وقد جاء تأسيسها عام 1945 بعد أن غابت شمس الحرب الكونية الثانية، وباشرت مسؤولياتها في العام التالي.

ولكي تفضح جنوب إفريقيا جرائم إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية أكدت أن الشعب الفلسطيني خاصة غزة تعرض للنكبة الكبرى ومنها الإبادة الجماعية غير المسبوقة في التاريخ الحديث ضد الأطفال والنساء وكبار السن والبنية التحتية والمدارس والمعاهد والجامعات وحتى دور العبادة.

وحقيقة الأمر القانونية أن جنوب إفريقيا استطاعت بدعواها متوفرة الأركان القانونية أن تؤكد للمحكمة أن الدولة العبرية على مدى أكثر من (70) عاماً وهي ترتكب أعمال إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، وتفرض حصاراً جباراً على غزة مقروناً بإبادة جماعية مما جعل أهالي غزة على حافة المجاعة.

لا شك أن دعوى جنوب إفريقيا ذات أهمية بالغة والقانون الدولي والإنساني يدعمانها، خاصة أن أدلة قانونية بالغة الأهمية قامت صاحبة الدعوى بجمعها خلال (13) أسبوعاً لتثبت أن الدولة العبرية قامت بقصد وترصد وإصرار بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة، مستعملة جميع أنواع الأسلحة الحديثة بما فيها أسلحة الدمار الشامل.

إذاً إسرائيل خططت بسوء نية وقصد وإصرار بارتكاب جرائم إبادة جماعية ومحو غزة من الخريطة وتهجير أهلها قسراً بعددهم البالغ (2.2) مليون نسمة.

يتضح إذاً المبدأ القانوني الشهير في القانون الدولي الإنساني (مبدأ التمييز) الذي يعد مبدأً أساسياً مؤداه أنه من واجب الدول في حالة النزاع المسلح أن تميز بين المدنيين والمقاتلين وبين الأهداف المدنية والأهداف العسكرية، وحماية المدنيين من خطر الهجمات المتعمدة أو المباشرة ضدهم والأهداف المدنية ناهيك عن خطر الهجمات العشوائية، وقد نصت المادة (33) من اتفاقية جنيف على حظر العقوبات الجماعية ويحظر البروتوكول الأول والثاني الإضافيان لاتفاقيات جنيف الأعمال الهادفة إلى حماية السكان المدنيين وكذلك الأفراد محل الهجوم، وهذا وضحه البروتوكول الأول لاتفاقيات جنيف في المادة (51) والبروتوكول الثاني في المادة (13).

وهذه الأحكام تعتبر عنصراً أساسياً من قواعد القانون الدولي الإنساني التي تحكم سير العمليات العدائية فهي تحظر أعمال العنف أثناء النزاعات المسلحة.

ولذا كان هذا هو موقف القانون الإنساني الدولي واتفاقيات جنيف من القتل الجماعي والتدمير الشامل لجميع مرافق الحياة واعتبارها جرائم حرب تستوجب العقوبة فإن القانون الدولي يعتبر ما قامت وتقوم به إسرائيل ضد العزل واستهداف المدنيين عمداً لتفرض عقاباً جماعياً يعتبر انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي وقوانين الحرب والأعراف الدولية.

وإذا كان الاستعمار غابت شمسه في القرن المنصرم وتحديداً بعد أن توقفت نيران الحرب الكونية الثانية عام 1945 متزامناً مع انطواء بعض الإمبراطوريات ومنها البريطانية والفرنسية خاصة في الوطن العربي ولم يتبقَّ في الديار العربية دولة مستعمرة سوى فلسطين التي ابتليت ومعها القدس الشريف التي ترزح تحت الاستعمار الإسرائيلي والتفرقة العنصرية، لهذا فإنه من حق الشعب الفلسطيني المقاومة المسلحة (لتقرير المصير)، وهذا حق يضمنه ميثاق الأمم المتحدة، فمنذ تأسيسها حصلت دول كثيرة على استقلالها من الدول المستعمرة.

إذاً حق الكفاح المسلح مشروعٌ لكي يكتسب الإقليم المستعمر استقلاله ويصبح عضواً في منظمة الأمم المتحدة، لذا اعتبر القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي الكفاح المسلح لحركات التحرر الوطني صراعاً مسلحاً دولياً استناداً لاتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949.

والقضية الفلسطينية مثلٌ حيٌّ لهذا فالشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت الاستعمار والتفرقة العنصرية منذ عام 1948 وقضيته حائرة بين الأمم المتحدة ومجلس أمنها الذي تتحكم في قراراته خمس دول صاحبة الفيتو خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، فالأولى اعترفت بإسرائيل بعد (11) دقيقة والثانية بريطانيا ولدت الدولة العبرية على أرضها بوعد بلفور اللعين عام 1917.

وحرب إسرائيل وداعموها وفي مقدمتهم بالطبع دعم الرئيس الأمريكي خرج من رحمها (كذبة كبرى) حل الدولتين أعلنتها الولايات المتحدة على لسان الرئيس بايدن كدولة فلسطينية مجردة من السلاح، هذه (الفرية) تعلم أمريكا أنها مجرد ذر للرماد في العيون، فمنذ العام المشؤوم 1948 تأسس هذا الكيان الصهيوني على أرض العرب وأمريكا تتلاعب بالألفاظ، بل إن (أوسلو) سجل تاريخ نوايا إسرائيل وأمريكا ضد قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس، وكل ما حدث أن الرؤساء الأمريكيين مع إسرائيل على طول الخط ضد الفلسطينيين وينكرون جميعاً قيام دولة فلسطينية.

والدليل واضح لا يحتاج إلى بيان فالرئيس الأمريكي السابق (ترامب) أقدم على ارتكاب جريمة كبرى ضد أهل فلسطين، فبلفور الوعد اللعين بقصاصة ورقة صغيرة أعطى لليهود حقاً في أرض العرب وهو لا يملك ذرة تراب فيها، وترامب منح اليهود القدس عاصمة لهم، وزاد بإعطائهم الجولان السورية والمستعمرات التي أقامتها إسرائيل على أرض فلسطين.

إذاً تتضح خيوط لعبة هذا القرن التي كانت سائدة في القرن المنصرم والتصريحات الأمريكية بشأن الدولتين كخيار للسلام ما هي إلا سراب في سراب.

والدليل الأهم أن العرب مجتمعين لأول مرة في تاريخهم في مؤتمر بيروت الشهير عام 2002، قدموا لإسرائيل وأمريكا والمنظومة الدولية مبادرة سلام تاريخية منشأها سعودي واضحة عناصرها كالشمس في رابعة النهار ملخصها انسحاب الدولة العبرية من جميع الأراضي التي احتلتها عام 1967 وقيام دولة فلسطينية وعاصمتها القدس.

وثمن هذا اعتراف العرب بالكيان الصهيوني لكن (البلية - ومن البلية ما يضحك) أن دول العالم رحبت بتلك المبادرة، أما إسرائيل وأمريكا فكان رفضهما لها أسرع من البرق، وهذا يؤكد نية (الشر) التي تتحصن بها أمريكا وإسرائيل أصحاب الكذبة الكبرى، ويبقى القول إن الدعوى التي أمام محكمة العدل الدولية والتي تعتبر صناعة جنوب إفريقيا، التي أكدت أن إسرائيل ارتكبت عمداً وإصراراً عمليات القتل الجماعي لعشرات الآلاف من الأطفال والنساء وكبار السن والمواطنين وتهجيرهم قسراً وتدمير المنازل على رؤوس ساكنيها، ناهيك عن تدمير دور العبادة والمدارس والمعاهد ومقرات المنظمات الدولية، وقطع كل سبل الحياة عن أهل غزة من مياه وكهرباء وغذاء وماء وهذا يعد جريمة كبرى بحق الإنسانية.

ورغم مراوغة إسرائيل أمام المحكمة محاولة التأثير على سير العدالة وإصدار حكم الإدانة، لكن عرف عن المحكمة قوة صلاحيتها ووقوفها ضد الباطل مع الحق.

لذا جاء قرار محكمة العدل الدولية لصالح الفلسطينيين بفرض إجراءات طارئة على الدولة العبرية، وجاء حكمها ضد إسرائيل.

وقد طلبت اتخاذ إجراءات لمنع الإبادة الجماعية.

وأن على دولة الاحتلال أن تتخذ الإجراءات لمنع ارتكاب جميع الأفعال طبقاً لنص المادة (2) من اتفاقية الإبادة الجماعية، وأمرت المحكمة إسرائيل بالامتناع عن أية أعمال قد تندرج ضمن اتفاقية الإبادة الجماعية، وضمان عدم ارتكاب إسرائيل في أي أعمال إبادة جماعية في غزة.

لا شك أن الحكم انتصارٌ لجنوب إفريقيا والقضية الفلسطينية والقانون الدولي، رغم أن المحكمة لم تأمر بوقف حرب غزة.

لهذا يعد الحكم انتصاراً تاريخياً ضد إسرائيل وجرائمها، ويدعم قضية فلسطين أمام محكمة الجنايات الدولية التي يطالب بها الفلسطينيون لتطبيق جميع مواد محكمة الجنايات الدولية على جرائم إسرائيل وقادتها في جميع ما ارتكبوه من جرائم في كل حروبها على الفلسطينيين خاصة غزة.

ورغم أهمية حكم المحكمة، إلا أنها بتبعيتها للأمم المتحدة فإن المحطة النهائية لحكمها سيكون موضوعاً لمناقشات مجلس الأمن، ويكفي (فيتو واحد) وبالطبع سيكون أمريكياً لإجهاضه، لكن سيبقى أثره وصمة عار في جبين إسرائيل وذا أثر كبير ونصراً تاريخياً عظيماً للفلسطينيين، وإن كان حكماً جاء جزئياً لأنه لم يطالب إسرائيل بإيقاف الحرب.

وعلى المستوى الدولي فإن أثره سيبقى كبيراً لسنوات عديدة، إذ أنه يبرز عنصرية وفاشية إسرائيل بارتكابها جرائم القتل الجماعي.

** **

- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة