ليس هنا المكان المناسب، ولا المساحة اللائقة بالبحث في أزمات العالم الخارجي، رغم أنها، في مجملها وتفاصيلها، تؤثر في استقرار وأحوال دول الشرق الأوسط، إنما أكتفي هنا بعرض أحد أهم عناصر تكوين الأزمة الشاملة في الشرق الأوسط، وهو الأزمة التي تنذر بوادرها بخطر جسيم يهدّد سلامة وأمن كثير من دول وشعوب المنطقة.

بعض قادة هذه الدول يقلل من شأن هذه الخطورة، ويظنّ أن الخطر بعيد، رغم أنه صار، بالفعل، يهدد دولاً وشعوباً أخرى في الإقليم، منها دول وشعوب في جوارنا.

كثيرة هي أعراض الأزمة، ومتغيراتها، وأسبابها الظاهرة في الشرق الأوسط، بعضها قديم قِدم المنطقة، وتراثها، وأديانها، وجغرافيتها، وهجرات شعوبها التاريخية، وتكوينات هذه الشعوب، وبعضها حديث عمره من عمر معظم دول المنطقة، ونتيجة تفاعلاتها البينية. وبعضها الثالث طارئ، أو مستجد.

مذكرة جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، وشهادات المحامين وقرار المحكمة، كلها مجتمعة صدمت الغرب، وأذهلت الجنوب العالمي، وجددت في قيمة مفهوم العدالة لدى جيل ناشئ في مختلف الشعوب، وأبرزت من جديد، قوة الأكثرية على حساب قوة وهيمنة الأقلية، ودرساً هامّاً للصين بخاصة.

لا خلاف كبيراً في الرأي الثابت الآن، والقائل بأن إفريقيا شهدت بدايات صحوة خلال الشهور السابقة على إعلان جنوب إفريقيا عن موقفها من عملية الإبادة البشرية التي تنفذها إسرائيل في فلسطين. أظن، وهو ظن أو رأي شخصي، أن الاثنين مترابطان، أو بينهما صلة. ما كانت جنوب إفريقيا لتتخذ هذا الموقف «الأسطوري في جرأته وشجاعته وصدقه»، لو لم تتوحد في نظرها إفريقيا وشعوب الجنوب، بفخر وثقة، تجاه الثورة الناشبة ضد الاستعمار الغربي في منطقة الساحل. من ناحية أخرى، ما كانت مذكرة جنوب إفريقيا لتحظى بهذا الاستقبال «الأسطوري أيضاً»، من الرأي العام العالمي، بخاصة رأي أساطين القانون الدولي لو لم تكن شعوب الجنوب جاهزة للتغيير والتصدي لظلم الغرب، ولأسطورة تفوق وسيادة الرجل الأبيض. في رأيي، ولا مبالغة كبيرة فيه، أن هذه الصحوة الشاملة في عالم الجنوب في قيمتها التاريخية لا تقل أهمية ووزناً عن أهمية ووزن واقعة انطلاق أساطيل الغرب، قبل قرون، لإقامة إمبراطورياته في آسيا وإفريقيان وفي الأمريكتين. لذلك لست متفاجئاً بكثافة الزيارات والضغوط الغربية الراهنة للعواصم الإفريقية، سعياً للجم هذه الصحوة، ومنع تمدّدها، ووقف آثارها، بخاصة ما يتصل بعناصر الانحدار في مؤسسات النظام الدولي الراهن، وبخاصة مجلس الأمن، وعدم التزامها قواعد النظام الدولي.

لست متفاجئاً بموقف دول الغرب، ولن أتفاجأ بموقفها في حال فشلت في لجم إرادة إفريقيا، وغيرها من أقاليم الجنوب. سلمياً، لن تعترف هذه الدول الغربية بأن دورها انتهى، ولن تتنازل عن مكانتها، ومستعمراتها، من دون مقابل. فوراً، سوف تحاول، بالقوة إن استدعى الأمر، وقف انهيار دفاعاتها الإمبراطورية.

إسرائيل بالمثل، لن تقبل التوقف عن أعمالها البربرية ضد شعب فلسطين، وشعوب أخرى. حانت في أكتوبر فرصتها التاريخية لإثبات أن شعبها، لا غيره، هو الشعب المختار. لم تكن زلّة لسان تصريحات هذا الوزير، أو ذاك، عن الكائنات غير البشرية التي تسكن غزة والضفة. ولا كان اعترافها الضمني في أوسلو بسلطة فلسطينية تشاركها على جزء من الأرض قبولاً باحتمال إقامة دولة فلسطينية في زمن مقبل.

خططت ليوم تضعف فيه أمريكا والغرب عموماً، فتنفذ الإبادة مستندة إلى تواطؤ حلفائها. عرفت، وتعرف أن واشنطن لأسباب داخلية قد تناور، ولكنها شريك لا يخون، فإسرائيل إلى حد غير بسيط مهيمنة في أمريكا، وبريطانيا العظمى، وفرنسان وبشكل من الأشكال أثبتت ألمانيا خلال الشهور الأخيرة أنها ليست حرة الإرادة في كل شأن يتعلق بإسرائيل، واليهودية العالمية، ولن تكون حرة في أي وقت قريب.

لن أذهب بعيداً. أمريكا تعود إلى الشرق الأوسط، كان، قبل أيام، عنواناً لتصعيد خطر في الحرب الدائرة في الشرق الأوسط بين دولة احتلال وعدد، كبر أو صغر، من المقاومين لهذا الاحتلال. وبالنسبة إليّ، وإلى آخرين، كانت العودة دليل مزيد من انحدار قوة ومكانة هذه الدولة العظمى، وانتقاصاً مؤكداً من قوتها في المواجهة مع الصين، في الجبهة الباسيفيكية. نعرف، من أمريكا نفسها، أن عظمتها كانت مستمدة، بشكل أساسي، من التزامها منظومة قيم إنسانية، وانحياز كامل للعدالة وحقوق الشعوب. أما أن تعود لتتدخل بالقوة لحماية دولة قررت أن تسود فوق غيرها بحجج التاريخ، والأساطير، والدين، ونقاء العنصر، أو تميزه، ففي النهاية هي الخاسرة. لسنا غافلين، ولا غافلة شعوب الشرق الأوسط، ولا غافلة إدارة الرئيس بايدن في سنتها الانتخابية، عن عدد الضحايا الذين خسرتهم أمريكا خلال أقل من أسبوع، نتيجة تدخلها غير الرشيد. مثل هذا التدخل كان في أفغانستان والعراق، وهو الذي أطلق مسيرة انحدارها. وأراها، وأقصد إدارة بايدن، ومختلف تيارات الحزب الديمقراطي في الكونغرس، مرتبكة إزاء انتشار ظاهرة الاحتجاج بين العاملين في عدد من مواقع اتخاذ القرار السياسي الأمريكي، بخاصة الكونغرس ذاته، ووزارة الخارجية. يحتجون على سياسات الاستمرار في دعم إسرائيل عسكرياً.

أشباح الخطر تخيم على الشرق الأوسط، وأكثرها منبعث من داخله، وبدعم من خارجه. قليل، أو دون المستوى، استعداد أو تضامن دول الإقليم القادرة والفاعلة لمواجهته، ويكاد يكون منعدماً للعين المجردة دور لروسيا، أو للصين في هذه المواجهة.