منطقة الخليج العربي والبحر الأحمر من أنظف بحار العالم بخلوه من المواد البلاستيكية إلى حد كبير رغم أن ناقلات النفط تعبره يومياً حاملة أكثر من 20 مليون برميل من النفط آتية من دول الخليج العربي وفي مقدمتها السعودية صاحبة أكبر احتياطي وإنتاج من النفط في طريقها لسوق النفط الدولية.
والصراع الذي تشهده مياه البحر الأحمر الذي يحتضن مضيق باب المندب بسبب احتجاز الحوثيين جعل الدول الكبرى المستخدمة للنفط خاصة أمريكا وبريطانيا تتصدى لهم (بقوتها) لتضرب صنعاء والحديدة وغيرهما. ومما يؤكد ما ذهبنا إليه أن التاريخ يقول لنا إن بالأمس تصارعت الدول الكبرى على منطقة الخليج العربي بسبب موقعها الاستراتيجي، ومضيقي هرمز وباب المندب - مضيقي الخطر جزء لا يتجزأ من المنطقة فقد كانت المنطقة عبر التاريخ مرتكزاً لأطماع الدول الكبرى وصراعاتها للسيطرة عليهما فلعبت تلك الدول دوراً إقليمياً ودولياً هاماً في حركة التجارة الدولية، تعاقبت عليهما دول كبرى أهمها بريطانيا.
هذان المضيقان الاستراتيجيان بالغا الأهمية، حيث يعتبر مضيق هرمز مثلاً المنفذ الرئيسي البحري الوحيد لكل من العراق وقطر والكويت والبحرين، يبلغ عرض ممري الدخول والخروج منه للسفن ميلين بحريين أي (10.5كم) أما عمقه فيبلغ (60م فقط)، ومن أهم الحوادث التي وقعت في المضيق ولم تعطل المرور فيه تصادم الغواصة الأمريكية (هارتفورد) والسفينة الحربية الأمريكية (نيو أورليانز) في 20 مارس 2009، عندما كانتا تقومان بعمليات مناورة، وهذا يؤكد مدى خطورة الملاحة في هذا المضيق الهام الذي يمثل استراتيجية بالغة الأهمية في عالم اليوم تتجه إليه أنظار العالم، وتشابكت عندها المصالح، وتواجهت فيها الاستراتيجيات - منفذ النفط إلى العالم، وطريق الملاحة البحري لكل موانئه، وعنق الزجاجة في طريق الملاحة البحرية لكل الدول المطلة عليه، والممر الاستراتيجي الذي يمر به شريان الحياة للعالم الصناعي المحتاج للنفط.
ومضيق باب المندب يعد أحد أهم الممرات والقنوات المائية في العالم وأكثرها في حركة السفن، يقع بين جزيرة العرب وإفريقيا، وبهذا فإنه يعد مفتاح الملاحة الرئيسي في البحر الأحمر، يصل البحر الأحمر بخليج عدن والمحيط الهندي وتطل عليه أربع دول فعلى ساحله الشرقي تقع اليمن، وتقع أريتيريا وجيبوتي على ساحله الإفريقي. وتبلغ المسافة بين ضفتي المضيق 30 كم من رأس منهالي في الساحل الآسيوي إلى رأس سيان على الساحل الإفريقي. وقد ظلت أهمية باب المندب محدودة حتى افتتاح قناة السويس 1869 وربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط وعالية، فتحول إلى واحد من أهم ممرات النقل والمعابر على الطريق البحرية بين بلدان أوروبية والبحر المتوسط، وعالم المحيط الهندي وشرقي إفريقيا.
ومما زاد في أهمية الممر، أن عرض قناة عبور السفن، وتقع بين جزيرة بريم والبر الإفريقي، هو 16كم وعمقها 100-200م، مما يسمح لشتى السفن وناقلات النفط بعبور الممر بيسر على محورين متعاكسين متباعدين.
إذاً باب المندب يعد حلقة الوصل بين قارات إفريقيا وآسيا وأوروبا والعالم، وهذا يؤكد أن الخليج العربي بنفطه واستراتيجيته، والبحر الأحمر الذي يحتضن باب المندب، لقلنا إن بلاد العرب بقنواتها (قناة السويس) ومضيق هرمز وباب المندب هي قلب العالم الاستراتيجي، وهي رئة العالم في النفط والغاز.
والجدير بالذكر أن هذه المضايق ومنها مضيق هرمز وباب المندب عرفتها المادة 16/4 من اتفاقيات جنيف عام 1958 قائلة بأن المضيق (ذلك الذي يخدم الملاحة الدولية ويصل جزءاً من البحر العالي بجزء آخر أو البحر الساحلي لدولة أجنبية).
والقانون الدولي وقانون البحار يجعلان المرور في المضايق حراً لمراكب جميع الدول وسفنها وليس للدولة والدول صاحبة الإقليم أن تمنع المرور منه دون داعٍ، والاتفاقية الدولية لقانون البحار لعام 1982 نصت صراحة على أن جميع السفن العابرة للمضايق الدولية مدنية كانت أو عسكرية من حقها المرور العابر دون تمييز أو عراقيل رغم أن تلك الاتفاقية أعطت الدول المطلة على المضيق حقوقاً محدودة لتنظيم المرور العابر من خلال المضيق، وبالطبع فإن السفن الناقلة للبترول تأتي في المقدمة، وهذا ما أكدناه في حديثنا مع جريدة الاقتصادية ومما قلناه (أن الدولة صاحبة المضيق ليس من حقها طبقاً للقانون الدولي وقانون البحار إغلاق المضيق، ومن حق دول العالم المرور من خلال المضايق. قلنا إن منطقة الخليج ومضيق هرمز ومضيق باب المندب هما جزء أصيل من هذه المنطقة التي كانت بالأمس ميداناً للصراع الدولي بسبب الاستراتيجية الهامة لحركة التجارة الدولية، أما اليوم وتحديداً منذ اكتشاف النفط في هذه المنطقة فقد أصبح الاهتمام بها بسبب النفط أولاً ثم بسبب الاستراتيجية ثانياً، هذا لأن منطقة الخليج العربي يبلغ احتياطيها المؤكد من النفط أكثر من (833) مليار برميل، ودول مجلس التعاون الخليجي الست لوحدها يبلغ احتياطيها النفطي المؤكد أكثر من (500) مليار برميل.
وهذه الكميات الضخمة من نفط الخليج لا بد لها أن تصدر عن طريق المضيقين باستثناء نفط السعودية حيث يوجد له منافذ أخرى، حيث تتعدد منافذ تصدير نفطها إلى الأسواق العالمية من موانئها على البحر الأحمر التي يمكن استخدامها في حالة تعرض المضايق للإغلاق، وهذه المضايق الهامة تعبرها يومياً حوالي 30 ناقلة نفط بمعدل ناقلة نفط عملاقة كل (5) دقائق في ساعات الذروة تحمل ما بين 20 مليون ب/ي يمثل حوالي 35 في المئة من النفط المنقول بحراً على المستوى الدولي.
وإذا كانت هذه المنطقة الهامة -استراتيجياً ونفطياً- تتوجه إليها أنظار الدول الكبرى المستهلك الرئيس للنفط وفي مقدمتها بالطبع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والصين والهند، بل إن دولاً مثل أمريكا تعتبره جزءاً من أمنها القومي فهي أكبر مستهلك للنفط على مستوى العالم، وينقل إليها ولغيرها نفط الخليج العربي الرئة التي تتنفس منها، مما أدى إلى احتلال العراق باحتياطيه البالغ (145) مليار برميل من قبل أمريكا وبريطانيا عام 2003 حتى خروج تلك القوات في نهاية 2011 ويمكنها العودة إلى ذلك البلد. لكن من يقرأ التاريخ العسكري الاستراتيجي يدرك أن جماعة الحوثيين ليس بمقدورها إغلاق المضايق بشكل قطعي، وإغلاق المضايق ستكون نتيجته الحتمية ارتفاع كبير في أسعار النفط، لكن الدول المستهلكة ستتعايش مع ارتفاع الأسعار من خلال ضخ بعض ما تحتاجه من مخزونات النفط لديها، رغم أن ارتفاع الأسعار سيفاقم من مشكلة تقهقر نمو الاقتصاد العالمي، وهذا لن تقبل به الدول الكبرى التي ستقوم بحماية المضايق لضمان تدفق النفط دون أية عوائق ليصل إلى الدول المستهلكة. والله ولي التوفيق.
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة
التعليقات