على ضوء حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والتي ذهب ضحيتها حتى اللحظة قرابة تسعة وعشرين ألفاً من الفلسطينيين، غالبيتهم من المدنيين العزل، ومن ضمنهم آلاف الأطفال، وأكثر من تسعين ألف جريح، عدا عدد كبير من المفقودين، تقدمت حكومة جنوب إفريقيا، بدعوى إلى محكمة العدل الدولية، التي تتخذ من لاهاي، في هولندا مقراً رئيسياً لها، مطالبة بوضع حد للحرب على غزة، ومحاسبة مرتكبي جرائم الإبادة بحق المدنيين، باعتبارها ترقى لمستوى جرائم الحرب، التي يعاقب عليها القانون الدولي.
وما يعطي دعوة جنوب إفريقيا أهمية بالغة هو أنها قدمت للجهة المنوط بها الفصل في المنازعات الدولية. فمحكمة العدل الدولية هي جهاز قضائي رئيسي تابع لهيئة الأمم المتحدة، تتولى الفصل طبقاً لأحكام القانون الدولي، في المنازعات القانونية التي تنشأ بين الدول. ومن ضمن مهامّها تقديم آراء استشارية، بشأن المسائل القانونية، التي قد تحيلها إليها، أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة. والمحكمة وفقاً للعرف المعتاد، لا توجه الاتهام المباشر لأشخاص بعينهم، ولكن للحكومات والأنظمة السياسية، وهي على هذا الأساس، ليست هيئة تنفيذية، ولذلك تلجأ في حالة عدم التزام الفرقاء المتخاصمين بقراراتها، إلى محكمة الجنايات الدولية.
محكمة الجنايات الدولية هي التي تتولى تحديد المسؤولين عن ارتكاب جرائم بحق الإنسانية بعينهم وأسمائهم، وهي الجهة المنوط بها تحديد نوعية العقوبات التي تفرض على مرتكبي الجرائم.
لكن هذا الكلام ينبغي أن لا يؤخذ به على علّاته. إن قرارات محكمة العدل الدولية، تكون قابلة للتنفيذ حين يقبل بها الكبار، نعني تحديداً الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، كما حدث في أزمة كوسفو. أما حين يختلف الكبار فيما بينهم على قضية ما فإن قرارات المحكمة الدولية تظل اعتبارية وغير قابلة للتنفيذ.
في العملية العسكرية الخاصة التي أطلقتها روسيا الاتحادية ضد جمهورية أوكرانيا، أصدرت محكمة الجنايات الدولية عدة قرارات تدين التدخل الروسي، وبعض هذه القرارات يبلغ حد السخرية، حيث صدر قرار محكمة العدل الجنائية الدولية بإلقاء القبض على الرئيس الروسي فلادمير بوتين. وبالتأكيد فإن الذين أطلقوا هذا القرار يعلمون سلفاً باستحالة تنفيذه.
تعيدنا هذه المقدمة إلى الموضوع الرئيسي، موضوع الشكوى التي تقدمت بها جنوب إفريقيا للمحكمة الدولية ضد حملات الإبادة الإسرائيلية بحق سكان غزة. فمع عدم التقليل من الأهمية الأخلاقية النبيلة لموقف جنوب إفريقيا، وأيضاً مع التسليم بالجوانب الاعتبارية لهذا الموقف، كونه يكشف للعالم بأسره مستوى الجرائم التي ارتكبها الإسرائيليون بحق الفلسطينيين، فإن فاعلية هذا الموقف لا تتعدى على الصعيد العملي الجوانب الاعتبارية.
إن إسرائيل ترتكب جرائمها في غزة على مرأى ومسمع العالم بأسره، وقنابلها التي تقذف بها الطائرات من الجو لا تميز بين هدف مدني أوعسكري. وهي تقوم بذلك كله معتمدة على دعم أمريكي غير محدود، يشاطره فيه للأسف معظم حلفائها الأوروبيين، وعلى رأسهم الحكومة البريطانية.
إن السبيل الوحيد الممكن والمتاح للفلسطينيين لوقف الحرب على غزة هو اللجوء لهيئة الأمم المتحدة. وهنا ينبغي التمييز بين هيئتين رئيسيتين في هذه المنظمة الدولية: مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة. وفي مجلس الأمن الدولي سيواجه أي قرار أممي يدعو لوقف الحرب ب«الفيتو» الأمريكي، وقد حدث ذلك عدة مرات خلال هذه الأزمة. إن ذلك يعني أن الملجأ الأممي الوحيد لمناقشة مبادرة جنوب إفريقيا وقرارات المحكمة الدولية هي الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي سيكون قرارها في النهاية لصالح الفلسطينيين بحكم غلبة عضوية دول العالم الثالث في هذه الجمعية. لكن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة على أية حال ليست ملزمة لمجلس الأمن الدولي.
إن الحل المتبقي والممكن لوقف الحرب هو استمرار الضغط الشعبي الدولي المطالب بوقف الحرب وبشكل خاص في الدول المساندة للعدوان. إن ذلك يفرض على جميع القوى المحبة للسلام في العالم مواصلة جهودها- كلٌّ من موقعه- لوقف الحرب.
إن تصليب الكفاح الفلسطيني ومواصلة دعم صمود أهلنا في غزة من قبل الدول العربية، هو واجب قومي وإنساني. فما يجري في غزة الآن هو تهديد مباشر للأمن القومي العربي واستمراره يهدد باتساع دائرة الغضب وربما يهيئ لانفجارات وبراكين لا قبل لأحد عليها. وقد رأينا ذلك بالفعل يتحقق الآن في عدد من الأقطار العربية، ضمنها سوريا ولبنان واليمن والعراق. ورأينا في المقابل اتساع دائرة العدوان، وانخراط الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الصراع.
لا مناص للخروج من هذه الأزمة إلّا بإعادة الاعتبار للقوانين الدولية، وللقرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، ومن ضمنها القراران 242 و336، اللذان اعتبرا الضفة الغربية ومدينة القدس وقطاع غزة أراضي محتلة. وقد قبل العرب جميعاً، والفلسطينيون منهم بشكل خاص بهذه القرارات، التي أكدت حق الفلسطينيين في تقرير المصير وإقامة دولتهم الحرة المستقلة فوق ترابهم الوطني. وقد حظيت هذه القرارات بدعم دولي شامل.
ومن ضمن الذين وافقوا على قيام الدولة المستقلة رؤساء أمريكيون مثل جيمي كارتر وبيل كلينتون وباراك أوباما والرئيس الحالي بايدن، ولم يتبقّ لكي يعمّ السلام ربوع هذه المنطقة سوى وضع تلك القرارات موضع التطبيق.
التعليقات