لحظة فارقة عندما تأتى الأوامر بإيداع الرئيس الأسبق فى السجن، تنفيذا للحكم الصادر ضده، يرفض النزول من الطائرة، وتفشل كل المحاولات، فهو من ملامحه العناد، إلا أنه، فى نهاية المطاف، يقرر أن يهبط السلم، متجها على قدميه إلى حجرته المجهزة بكل أسباب الراحة داخل السجن، لم يشعر ولو للحظة واحدة بأنه خان الأمانة.
عرض عليه الإقامة داخل قصر منيف فى بلد عربى شقيق ولديه فريق عمل، يلبى كل طلباته، إلا أنه أبى على نفسه وتاريخه أن تكتب فقرة فى نهاية (كتاب الحياة)، تشير إلى أنه هاجر، مهما كانت الدوافع والأسباب، فلقد عاش على أرضها وسيوارى جسده التراب تحت أرضها.
حرص سلماوى، وهو يقدم الحدث، على أن نتابعه عن طريق (فلاش باك) يروى الحكاية منذ تردده فى نزول سلم الطائرة حتى اقتناعه بأن هذا هو الموقف الذى يليق به وبتاريخه، متمثلا الخط العام لمأساة أوديب، والخط العام لحياة الرئيس، مع خلق معادل موضوعى لكل المواقف التى عاشها الرئيس، تؤكد التماثل، وفى نفس اللحظة، تحتفظ بتلك المسافة الزئبقية، التى تتغير بين حدث وآخر، تمنح المتلقى شفرة لقراءة الحدث، يصبح هو فقط المسؤول عن التفسير، القراءة للجميع.
أنت فقط الذى تتحمل المسؤولية عن التفسير، عندما تعيد التشابك والملابسات، وبعد أيام قلائل من إيداعه السجن يرحل الرئيس عن الحياة، ويظل التماثل قائما بين مأساة أوديب واللعنة التى أصابته عندما قتل أباه وتزوج أمه، وبين مأساة بطل هذه الرواية، فهو يعتقد مثل أوديب أنه برىء تماما من تلك اللعنة التى ألصقوها به، ومع كل نفى يتعمدون أكثر تأكيدها وكأنها القدر الذى لا فكاك منه.
تكنيك السرد الذى أمسك به الكاتب الكبير محمد سلماوى لا يشبه هذه المرة أحدا سوى سلماوى، بإطلالة تجمع بين التراجيدية لما قبل التاريخ وأحداث كان سلماوى شاهدا عليها حينا، ومشاركا فى جزء من تفاصيلها حينا آخر.
لا تستطيع أن تعتبر تلك شهادة مباشرة عما جرى بالضبط فى 25 يناير، ولا هى أيضا تقف على أرض الحقيقة، بقدر ما أنها، ومنذ البداية، تتجاوز الواقع، حتى لو تماثلت فى بعض الوقائع، فهى تشبه قراءتنا (لأولاد حارتنا) لنجيب محفوظ، ومن أساءوا الظن عند التعامل معها هم الذين حملوها رؤية مباشرة، تمس الذات الإلهية وتاريخ الأنبياء، وهى أبدا ليست كذلك، بل أى تماثل مباشر يغتال الرواية، وهو أيضا ما ينطبق على (أوديب فى الطائرة) لسلماوى، عدد من التفاصيل التى يعرفها الجميع حرص سلماوى على استبدالها، ليظل أى تماثل هو فى نهاية الأمر قراءة خاصة بك أنت، وتتحمل نتائجها وحدك.
أرى فى البناء الروائى رؤية بعيدة عن الحدث المباشر، لأفق أبعد فى التناول، تفتح الباب لشكل جديد فى السرد قابل لمزيد من العمق، فى التجارب القادمة.
منهج سلماوى، كما رأيته فى هذه الرواية، يفرض عليه أنه كلما اقترب من الحدث المباشر وصار هناك تلامس إلى حد التطابق ووضع (الحافر على الحافر) كما يقول علماء اللغة، يمنحك الكاتب نغمة مغايرة تماما تبعدك تماما عن اللحن الأصلى.
القراءة السياسية المباشرة تظلم الرواية، وفى نفس الوقت لا يمكن أن تقرأها بمعزل عنها. ما إن تصافح عيناك أولى كلمات (أوديب فى الطائرة)، إلا وتجد نفسك وقد أمسكت بها وحلقت معها، حتى آخر صفحة، لتبدأ من جديد خلق صورة لها عليها توقيعك أنت!!.
التعليقات