حين انتخب السفير السابق للبنان في الأمم المتحدة الدكتور نواف سلام من قبل مجلس الأمن والجمعية العمومية للأمم المتحدة عضواً في محكمة العدل الدولية، لم تصوت الولايات المتحدة الأميركية ودول حليفة لها لمصلحة عضويته، بل صوتت لمنافس له. فواشنطن تعاطت مع سلام على أنه من موقعه الدبلوماسي تعاطف مع القضية الفلسطينية خلال فترة ولايته لمدة سنتين كعضو في مجلس الأمن بين العامين 2010 و2011.
فسلام الذي اتهمه «حزب الله» والجيش الإلكتروني التابع له بأنه أميركي الهوى حين طُرح إسمه كمرشح متقدم لرئاسة الحكومة من ضمن سلة تفاهمات تؤدي إلى انتخاب رئيس للجمهورية واختيار رئيس للحكومة، اكتسب صفة «العراب» الدبلوماسي لتصويت الجمعية العمومية على قرار اعتبار دولة فلسطين عضواً مراقباً في الأمم المتحدة عام 2012، ثم رفع علمها على منصة المنظمة الدولية عام 2015. تطلب الأمر جهداً دبلوماسياً وقانونياً دؤوباً للتوصل إلى هذا الإنجاز، ساهم به سلام بصمت وحنكة وكفاءة عاليتين، ما أدى إلى تصويت أكثرية 138 دولة إلى جانب هذا القرار، مقابل امتناع 38 ومعارضة 9 دول في مقدمها أميركا وإسرائيل طبعاً. فضمان العضوية في حينها، لم يكن يستوجب حشداً لدعم الخطوة باعتبارها نقلة سياسية مهمة فقط، بل كان يحتاج إلى مثابرة تتطلب استخداماً ذكياً للقوانين الدولية، وتسلحاً دقيقاً بشرعة الأمم المتحدة، يتفقان مع الأصول التشريعية، لإتمامها.
حفظت واشنطن هذا السلوك للسفير نواف سلام على الأرجح، ولذلك امتنعت عن التصويت لصالحه قاضياً في محكمة العدل الدولية عام 2018. فهو على احتفاظه بعلاقته التي تقتضيها الأصول مع سائر البعثات، ومنها الولايات المتحدة الأميركية كدولة مؤثرة في مجلس الأمن، تمسك بمبدأ سيادة الدولة التي يمثلها، مستنداً إلى قناعاته التي تتفوق على مناصرته العاطفية، طالباً وشاباً لحقوق الشعب الفلسطيني. التمسك بالسيادة اقتضى بطبيعة الحال مواجهات دبلوماسية مع سياسة أميركا...
إلا أنّ اكتساب سلام احترام وتقدير ممثلي الدول في نيويورك خلال ولايته بين الـ2007 و2017، منها ممثلاً لبنان في عضوية مجلس الأمن بين عامي 2010 و2011، ترأس خلالها أعمال المجلس في شهري أيار 2010 وأيلول 2011، وهو منصب يطلقُ عليه وصف «رئيس حكومة العالم»، أهّله لحصد تأييد الأكثرية لعضويته قاضياً في محكمة العدل، مع أنّ واشنطن انحازت لغيره. وهو خاض هذا المعترك من دون أن ترشحه دولته للمنصب، معتمداً على رصيده لدى سائر البعثات الدولية.
أثبت سلام خلال رئاسته مجلس الأمن قدرته على الملاءمة بين انحيازه إلى القضية الفلسطينية وبين موجبات التوازن السياسي والقانوني في التعاطي مع القضايا التي يتصدى لها الأعضاء الخمسة عشر لـ»حكومة العالم». فمن دون هذه الملاءمة، يصعب صدور القرارات عن المجلس في ظل حق النقض الذي تتمتع به الدول الخمس الدائمة العضوية.
أما أن يختاره قضاة المحكمة في لاهاي رئيساً لـ»محكمة العالم»، (كونها أعلى سلطة قضائية دولياً) ليحل مكان الرئيسة الأميركية التي انهت السنوات الثلاث لتبوئها المنصب، فهذا ذروة عالية من الاعتراف من قضاة يتمتعون بمعرفة وخبرة عالميتين بموقعه المتجرد بموازاة قناعاته كعربي ولبناني، في وقت تنكب المحكمة على المنازعة القضائية بين جنوب أفريقيا وإسرائيل بتهمة ارتكاب الأخيرة جرائم إباد جماعية في غزة، التي قبل القضاة الـ15 في 26 كانون الثاني الماضي النظر فيها، بعدما دعوا الدولة العبرية لاتخاذ جميع التدابير وضمان منع أي أعمال إبادة جماعية، ومنع ومعاقبة أي تصريحات أو تعليقات عامة يمكن أن تحرض على ارتكاب إبادة جماعية في غزة، واتخاذ جميع الإجراءات لضمان وصول المساعدات الإنسانية... على أن تحضر الهيئة لإجراءات المحاكمة التي قد تستغرق سنوات.
ترؤس سلام المحكمة في مرحلة حساسة جعلته يقول إنها «مسؤولية كبرى» لأن قرار محكمة العدل سيكون أهم نقطة تحول معنوي وسياسي في تاريخ القضية الفلسطينية لأن الجيل الشاب الحالي في العالم الغربي، والذي تعاطف مع غزة وفلسطين في الأشهر الماضية سيستند إلى ما تتوصل إليه في تغيير المزاج الدولي، لمجرد إجبار إسرائيل على أن تكون في موقع الدفاع حيال الاتهامات لها بالإبادة. وهو أمر أكثر فائدة من ترؤس حكومة لبنان.
التعليقات