لا يمرّ عام لا نسمع فيه أخباراً عن حروب ومجاعات وفيضانات وزلازل، وعن أقرباء لنا وأصدقاء يغيبون، ويكون وقع غيابهم علينا صادماً. هذا ما شعرت به لحظة سمعت خبر رحيل اسكندر أديب صفا.

أذكر اسكندر الآن، مقروناً باسم والده الذي لم أعرفه، إذ رحل وابنه البكر في العاشرة في عمره، فرُبي الطفل الطموح واخوه أكرم، برعاية والدتهما الراحلة دعد رزق، وقد شاءت الظروف أن يكون لي شرف التعرّف إلى هذه السيدة الكريمة في يوم من شتاء سنة 1998، حين ذهبت واسكندر لتناول أطباق لبنانية شهية في شقّة كانت تسكنها في الطبقة الأولى من إحدى بنايات الدائرة الثامنة في باريس، وكانت تقع فيها أيضاً، مكاتب مجموعة الأعمال التي كان يديرها اسكندر صفا وأخوه أكرم.

تعود معرفتي بالراحل اسكندر، أو "ساندي" كما كنت أدعوه، ويدعوه المقرّبون منه تحبّباً، إلى منتصف تسعينات القرن الماضي. لا أذكر عدد المرّات التي تقابلنا فيها في لندن ولبنان وباريس و"سان تروپيه" وضاحية "موندلييه" المتاخمة لمدينة "كان" الفرنسية، لكنّها كانت كثيرة، كذلك لم أعد أذكر عدد المقالات التي تناولت فيها "ساندي" وأعماله، في صحيفة "الحياة" اللندنية التي كنت أكتب فيها مقالات اقتصادية، وهذه كانت متعددة، بنسبة ما كان في شخصية الراحل من أبعاد متعددة، لكن الذي لم أكن أتخيله، هو أن يأتي يوم يقع في 29 كانون الثاني (يناير) من سنة 2024، وأسمع أنّ اسكندر صفا قد رحل، وأدوّن عنه هذه السطور، ليس لأنّ المنية لا توفّر أحداً، بل لأن "ساندي" الذي عرفته، لم يكن عليلاً، وكان يبدو لي دائماً صحيح الجسم، رياضياً ومغامراً، فوّاراً بالنشاط والأمل، لذلك كان غيابه أمراً غريباً، وما من شك في أنّ هذا الغياب سيحدث فراغاً ممضّاً، في قلوب أفراد عائلته، وقلوب ألوف العاملين في شركاته، ومن كانوا مقرّبين منه في لبنان وفرنسا ودنيا العرب، وفي البلاد التي كانت له فيها صداقات وعلاقات واسعة، وقد يكون من الإنصاف الآن، أن أبوح بشيء عن الرّجل بعدما وافته المنية، أنّ بالي كان قد انشغل عليه في الأشهر الخمسة أو الستة الأخيرة التي سبقت رحيله، إذ اتصلت به على هاتفه الجوال مرتين أو ثلاث مرات على ما أذكر، وأرسلت إليه رسائل هاتفية فلم أتلقّ ردّاً، خلافاً لعهده معي، ما جعلني أخيراً، اتصل بكريم حنكش، العامل في مجموعة CMN التابعة لعائلة صفا، لأتحرّى الأمر، فقال لي كريم إنّ "ساندي" بخير، لكنه "مشغول فوق رأسه"، أجوبة لم أجدها مرضية ووافية، وشعرت أنّ في الأمر شيئاً غير عادي، ولم أرد التوسّع في السؤال، تحسّباً من أن أحرج كريماً، مع ذلك شعرت أنّ الشاب المؤدّب يتكتم عليّ بشي اعتبره سرّاً، وإذ أتذكّر الآن تلك المكالمة الهاتفية، أدرك وبعد فوات الأوان، أنّ ذاك "السرّ"، أو ذلك الشيء "غير العادي"، لم يكن إلا علةّ مرض خبيث ألمّت بالرجل، وجعلته يختلف إلى المستشفيات، ويتوقّف عن العمل الشاق، وعن الاتصال بالكثير من الناس، لكن ما لم أتوقعه إطلاقاً، أنّ الرجل السليم العقل والجسم، والمليء بالحياة، ستغادره الحياة، وأنّ الصلة بيني وبينه ستنقطع، هذه التي لم تنقطع يوماً، رغم مرور السنوات الطويلة وبُعد المسافات.

كان اسكندر صفا رجلاً كتوماً، تأنف نفسه المظاهر، وآثر أن تكون حياته دائماً بعيدة عن الضوء، على رغم أنّ "خبطاته" في عالم الصناعة والمال كانت كثيرة، وبعضها كان مدوّياً

كان اسكندر صفا رجلاً غريباً، مختلفاً وفريداً من نوعه بين رجال الأعمال، وكان يدهشني بسعة إلمامه بشؤون السياسة اللبنانية والعربية، بالرّغم من أعماله الضاغطة، التي لم تكن تعطيه ما يكفي من الوقت للوقوف على الأخبار، والحقّ أنّني عرفت منه أشياء كثيرة، وكيف أنّ الدول التي توفد مندوبيها ورسلها إلى لبنان والمنطقة العربية، لا توفدهم كرمى لعيون شعوبها، بل لأنّ لها مصالح تريد الحفاظ عليها، ولو اتّفق أن أحد "المنظّرين"، وما أكثرهم في بلادنا، كان يقول لي ما كان يقوله الراحل اسكندر، لما كنت أوليت الكلام اهتماماً، أو كنت سمعته بإحدى أذنيّ كما يقول الغربيون في أمثالهم، لكن كلامه، كان كلام خبير لديه الكثير من المعلومات، بحكم علاقات قوية ربطته بمسؤولين كبار في حكومات أوروبية، وقد استغل هذه العلاقات، وخبرات شركاته الصناعية، في نقل تكنولوجيا التصنيع الدفاعي إلى بعض الدول العربية، لتكون قادرة على تصنيع معدّاتها الحربية الخاصة بها، من وحي قناعته بالعمل العربي المشترك، وضرورة أن يكون للعالم العربي أمنه الخاص بدلاً من طلب الحماية الأجنبية. تذكّرنا سيرة اسكندر صفا بمآثر صنعها مهاجرون لبنانيون في أمكنة كثيرة من العالم. وكان الرجل يفتخر بلبنانيته، وبأنّه العربي الوحيد الذي تمّلك حصّة غالبة في مجموعات دفاعية مختلفة في أوروبا. وهناك روايات يتناقلها العاملون في قطاع هذه الصناعات، قد يكون بعضها مفتاحاً لفهم العلاقة الغريبة التي نسجها صفا مع السلطات الفرنسية والأوروبية، وكانت مدار تساؤلات جمّة، ولا شكّ في أنّه نجح في ذلك، وأنجز عقوداً وأعمالا كثيرة، بالرغم من أنّ الطريق كانت وعرة، بل وعرة جداً! كان يعمل 18 ساعة في اليوم، وكان تألّقه في ميادين العمل المختلفة، يثير إعجاب الكثيرين من اللبنانيين والعرب والأجانب، ويثير في الوقت نفسه، الغيرة والحسد، والاتهامات المريبة، التي كانت تروّجها شركات منافسة، للنيل من سمعته الشخصية والتجارية، لكنّه استمرّ، بالرّغم من كل ذلك، يعمل بإرادة صلبة لا تعرف الفتور.

كان اسكندر صفا رجلاً كتوماً، تأنف نفسه المظاهر، وآثر أن تكون حياته دائماً بعيدة عن الضوء، على رغم أنّ "خبطاته" في عالم الصناعة والمال كانت كثيرة، وبعضها كان مدوّياً، وقد يكون من المفيد أن أنقل إلى القارئ شيئاً عنه وعن "خبطاته " المثيرة هذه. ولد صفا في بيروت عام 1955، وحاز شهادة الهندسة المدنية من جامعتها الأميركية، ثم شهادة "الماجستير" من معهد INSEAD في باريس، وتزوج كلارا مارتينيز من جمهورية الدومينيكان، وله منها ولدان: أكرم على اسم شقيقه أكرم، وأليخاندرو، ومعناه اسكندر في الإسبانية. منذ يفاعته وهو يعشق البحر وأمواجه العاتية. عمل في حقل الصناعات البحرية الدفاعية، وامتلك حصصاً في شركات دفاعية في إنكلترا وأوروبا والإمارات، والحصة الغالبة في مجموعة "CMN" المالكة لحوض بناء الزوارق الحربية في مدينة "شيربورغ" الفرنسية الواقعة على الساحل النورماندي، والحصة الكبرى في شركة "GNYK" الألمانية الواقعة قرب مدينة "هامبورغ" والمالكة لعدد من أحواض بناء السفن، كما كانت له علاقات واسعة مع كثير من حكومات دول العالم، أهلّته ليكون وسيطاً لتسويق الطائرات والزوارق ومعدّات النّقل الخاصة، بين شركات فرنسية وألمانية وبريطانية، وبعض الدول العربية، منها السعودية الإمارات والكويت وعمّان، قبل أن تكون لديه مجموعته الفرنسية والبريطانية الخاصة التي امتلكها في مطالع التسعينات. لم تكن الصناعات الدفاعية وحدها مجاله الوحيد، فكان مجلياً في غير حقل من حقول المال والصناعة والتجارة والعقارات والميديا. وتملك المجموعة التي كان يديرها هو وشقيقه أكرم في أوروبا وإنكلترا والإمارات، أربعة أحواض لبناء السفن الحربية، وحوضاً لبناء اليخوت الفائقة الثمن، كما تملك في ضاحية "موندلييه" المتاخمة لمدينة "كان"، أرضاً شاسعة مساحتها 1350 هكتاراً، تضمّ فندقاً ومطاعم واسطبلات خيول، وملاعب غولف، وغابة لصيد الغزلان والخنازير والأرانب، وبساتين شاسعة من شجر الزيتون، ومصنعاً لاستخراج زيته، وحقولاً من كروم العنب، ومصنعاً لإنتاج النبيذ، ومجّمعات لخلايا النحل تنتج نوعاً من العسل المميز، حصل على تصنيف مؤسسة Palme d'or''"، كما تملك بمنطقة "سان پونس" الفرنسية، مقلعاً لإنتاج أنواع مختلفة من الرخام النادر، رُصف بعضه في قصر "فرساي". وفي حقل الميديا الفرنسية تملك المجموعة صحيفتين أسبوعيتين سياسيتين اقتصاديتين: " ﭬالور أكتويل و "لا لتر دو لا بورس" ومجلة "سبكتاكل دي موند" الفصلية، المتخصصة في الدراسات التاريخية العالمية، وقناة Azur TV، وهي من القنوات الأكثر مشاهدة في جنوب فرنسا، إلى جانب مجموعة "Faton" الفرنسية التي تنشر 13 نشرة معظمها شهري، في مجالات الفن وعلم الآثار، والصحة والرياضة، كما تملك في فضاء الميديا اللبنانية، صحيفة "الصفا نيوز" العربية الإلكترونية، وهي اليومية الورقية ذاتها التي كان اسمها "الصفاء"، وكان يصدرها في ستينات القرن الماضي، الأديب والصحافي الراحل رشدي المعلوف، والد الروائي اللبناني الفرنسي المعروف أمين المعلوف، هذا كله ليس غريباَ عن سيرة رجل كانت حياته أشبه بخلية نحل، وكان واحداً من كبار رجال الأعمال اللبنانيين- الفرنسيين في فرنسا وأوروبا.

يقولون عن الذي يموت، إنه انتقل إلى جوار ربه، لكن بعض الناس يغادرون الدنيا كالخيال، كأنّهم لم يأتوا إليها، وبعضهم تبقى ذكراه حية، بفعل ما يترك من أثر، وكان اسكندر صفا على رغم تباين الرأي فيه، من هذه الطبقة من رجال الأعمال، لا بل رجل أعمال لكلّ الفصول. تلك كانت الصورة العامة عنه بين الناس، وبين من عرفوه عن قرب وعن كثب، ولا أجد ما أختم هذا الفصل عنه غير الاستشهاد بمثل صربي فحواه أنّ الناس يختلفون في الطبائع، اختلاف ألسنة النار من حطب يشتعل، وكما في الغابة خشب يتلاشى بسرعة حين يُرمى في الموقدة، هناك منها ما هو صلب، يقاوم اللهيب، ويبقى جمراً يضيء لفترة طويلة... وكان اسكندر صفا من هذا النوع الأخير.