لم يكنِ الشّرقُ، الذي اختاره الاستشراق موضوعاً له واشتغل به، إلاّ شرقاً مُتَخَيَّلاً، أي شرقاً منسوجاً على منوالٍ غربيّ أو، قُل، على النّحو الذي يناسب مزاجَ الغرب - ومصالحَه - أن يرى عليه ذلك الشّرق. وعلى امتداد زمنٍ فاض مداهُ عن قرنين (منذ الثّورة الفرنسيّة) انصرف الاستشراق إلى تأليف سرديّاته المتعدّدة عن ذلك الشّرق الذي شُغِل به، وإلى نشرها في جمهورٍ واسعٍ من المجتمعات الغربيّة ومن المجتمعات الشّرقيّة على السّواء مستخدماً، في ذلك التّأليف، موادّاً متعدّدةً ومؤلَّفة، ومن مزيجٍ من المعطيات الموضوعيّة ومن الصُّور المتخَيَّلَة.
ولأنّ العاملين في هذا المشروع المعرفيّ- الأيديولوجيّ الضّخم أتقنوا معرفة لغات الشّرق، أو لغات عوالمَ منه بعينها (الصّين، الهند، العالم العربيّ الإسلاميّ، كوريا...)، ومكّنهم ذلك من معرفة الكثير من حضاراته وتراثاته وثقافاته وأديانه...، فقد بدَوا وكأنّهم احتازوا المفاتيح الأساس التي بها يفتحون مغالقَه ومَجَاهِلَه. ثمّ لأنّ عالَمَ الشّرق هذا عالمُ الآخَر المختلف، كان لا مهْرب من تصنيع صورةٍ عن ذلك العالم بإعمالِ مقياسٍ تتحدّد به قسماتُها؛ والمقياس ذاك كان النّموذجَ الغربيّ، ولكنّه النّموذج الذي لا يُحَكَّم إلاّ متى أمكن صوْغُ مقابِلٍ نقيضٍ له في الذّهن. لذلك أتى شرقُ الاستشراق مصنوعاً في مختبر عقائده وفرضيّاته.
من تحصيل الحاصل، أنّ سرديّةً مّا لا يكونُ معتَمَدُها الوحيد المعطيات الموضوعيّةَ الثّابتة، وإنّما أخلاط منها ومن صُوَرٍ ذهنيّة وخياليّة هي، حكماً، سرديّةٌ اغتراضيّة أو مغترِضة، وغرضُها الذي تُضْمِرُهُ شديدُ الصّلة بالمصالح التي تبغي أن تسديَ السّرديّةُ خدمةً لها. إذا كان يسعُ صاحبَ مصلحةٍ أن يسوِّغ كلَّ شيءٍ وكلّ وسيلة ليبلُغ مصلحته، فكيف لا يصطنع سرديّاتٍ مصروفةً لتقديم الخدمة وجلْب المصلحة؟ إنّ هذا، بالذّات، هو ما فعله الاستشراق طَوال قرنين: صَنَع لنفسه سرديّاته عن الشّرق: مجتمعاتٍ وحضاراتٍ وثقافات فيها من الواقع التّاريخيّ نصيبٌ، وفيها من الخيال والاختلاق نصيب، ولكن فيها من إرادة تصوير الشّرق على نحوٍ من الأنحاء النّصيب الأكبر. وإذا كان يجوز الفصلُ في أعمال المستشرقين بين الغثّ والسّمين، السّيئ والحَسَن - وهو قطعاً يجوز- فإنّ مبْنى هذا الفصل لا يكون إلاّ على أساس حصّة الواقعيِّ والخياليِّ، المغْرِض والمحايِد في كلّ عملٍ استشراقيّ.
صنعتْ روايات المستشرقين عن الشّرق وعيَ الغربيّين الجمْعيّ: شعوباً ونخباً ثقافيّةً وحكومات، وكانت وراء سَنِّ سياساتٍ غربيّة عدّة تجاه بلدان الشّرق في الماضي، وما برحت تفعل ذلك الآن. وإذا كانت صلة الاستشراق بالدّول ومؤسّساتها صلةً مؤكّدة منذ اصطحاب بوناپارت، في حملته على مصر، جمهرةً من الدّارسين للشّرق معه، وصولاً إلى اتّخاذ الدّول وجيوشها وخارجيّاتها واستخباراتها في الغرب مراكزَ دراساتٍ خاصّة بالشّرق ومجتمعاته، موضوعةً قيْدَ الخدمة، فإنّ ثقافةَ المستشرقين وأحكامَهم عن مجتمعات الشّرق وثقافاته باتت هي السّائدة في البيئات الأكاديميّة والفكريّة، بل باتت المصدر الوحيد للمعرفة عن الشّرق قبل أن تسمح ثورةُ الإعلام والاتّصال، وطوفانُ الصّور المتدفّقة، بنشوء «مصادر» جديدة لتلك «المعرفة» (النّظام السّمعيّ - البصريّ - العنكبوتيّ). الفارق الوحيد بين معارف المستشرقين و«معارف» مَن يصنعون برامج الإعلام المقدَّمة عن الشّرق أنّ الأولى معارف عالِمة، حتّى ولو كان يشوبُها شوْبٌ من الأيديولوجيا، فيما «معارف» الثّانية رثَّةٌ وضحلة. إنّه الفارق بين عمل الباحثين وعمل الخبراء! بين عمل دارسين متخصّصين في دراسات الشّرق وعملِ متطفِّلةٍ على موضوعٍ يجهلونه أو، في أحسن أحوالهم، لا يعرفون منه أكثر من القشور!
في أيّ حال، عزّزت روايةُ المستشرقين عن الشّرق والصُّور النّمطيّة التي كوّنوها عنه عبر أجيالٍ منهم - وبعضُها يتغذّى من مواريث الصّور المتكوّنة في الوعي اللاّهوتيّ الأوروبيّ في العهد الوسيط - نظرةً غربيّةً سائدة إلى ذلك الشّرق بما هو عالم مجتمعاتٍ وثقافات أدنى، في سلّم المدنيّة، من نظيرتها في الغرب. والغرب؛ هذا العالَم المتفوِّق عسكريّاً واقتصاديّاً على غيره من عوالم الأرض التي فَتَحَ - بالقوّة النّارية - المعظمَ الغالبَ منها، كان يحتاج إلى تعظيم مكانته وتعظيم صورته عن نفسه بانتحال تفوُّقٍ آخر هو التّفوُّق الثّقافيّ.
إنّ هوس الشّعور بالتّفوُّق الثّقافيّ والحضاريّ لديه لا يفضي إليه شعوره بالتّفوّق الماديّ والعسكريّ فحسب، بل هو يستأنف اعتقاداً قديماً - أوروبيّاً ومسيحيّاً- بالتّفوّق الدّينيّ.
هكذا نلفي فكرة تفوُّق الغرب على الشّرق، التي نسج الاستشراق خيوطها، تُفصِح عن نفسها، في أحيانٍ، كثيرة منها في صورة قدْحٍ في الشّرق أو على الأقلّ، تسليمٍ قطْعيّ ب «دونيّته»!
التعليقات