لو تم وضع مشهد تلفزيوني لمدة ثوانٍ:

يجلس جميع أفراد الأسرة، في صالة واحدة، ينشغل الكل بجواله.. يسود الصمت، تُبحلِق العيون في شاشات الجوالات، تظهر مشاعر مختلفة بناءً على شاشة كل منهم، يضع الأب يده على صدره، يتحسس ألماً، يئن، يهمس الاب: اسعفوني.

لا أحد يتنبه له، ينهض بصعوبة، يردد: اسعفوني.

يواصل أفراد الأسرة تقليب جوالاتهم.. يتقدم الأب بصعوبة.. ويسقط ميتاً.. يواصل الجميع تقليب شاشات جوالاتهم.

هذا مشهد افتراضي، إلا أننا جميعاً نعيش عزلة كل منا عمن معه في البيت، أو المجالس.. الكل متلّهٍ بحاله، متفرد بجواله، والعوالم الافتراضية المبثوثة له.

** **

أستشعر أن الناس مقدمون إلى حالة من حالات التصحر العاطفي، ولأن الزمن جدّ في سرعته، فلم يترك لهم فرصة استقبال المتغير التقني بخطط استباقية، فالتغير التقني وثورة التواصل خطيَا خطوات متلاحقة طوت الزمن، فما كان يثبت من قيم للأبناء لم يعد قادراً على التثبيت، فإذا كنا نقيس الفرق بين الجيل والجيل بمقدار عشر سنوات، فهذا المقياس الزمني لم يعد صالحاً للقياس، فالخطوات سريعة جدّاً، وغدا الناس يقيسون فوارق الأجيال بالسنة أو السنتين متمثلين بتغير أجهزتهم الإلكترونية أو موديلات هواتفهم، وهذه الفترة الزمنية الصغيرة لفوارق الأجيال غير قادرة على تثبيت أي قيمة كانت محل التقدير، والتوصية بالإمساك بها، وجُلّ الناس في دوامة اجتماعية، ومن وضع خططاً بديلة للتغيرات الاجتماعية أيضاً لن يستطيع القفز من الخلاط الاجتماعي، فأولئك المحتاطون غلبتهم سرعة الزمن، إذ كان القياس الزمني للمتغير يقدّر بخمس أو ست سنوات، ولهذا لم تستطع خططهم البديلة النجاة بسبب سرعة المتغير.

فدخلنا جميعا داخل (خلاط) لا يعنيه رخاوة أو صلابة ما في داخله، فالكل سيغدو سائلاً.

ومع هذه السرعة الزمنية لم نألف على موازاتها أو مجاورتها، أو الاستعداد للمتغير بما يجب أن نكون عليه، وهذه الطامة الاجتماعية ليست مقتصرة على بلد أو جغرافية بعينها، بل هي عامة شاملة، ولن تثبت أي قيمة سابقة، فالجيل الحاضر والقادم سيصيغ قيمه الجديدة، إلا أن معضلته ستكون ساكنة في صدوره، وهذا ما أسميه بالتصحر العاطفي.

نعم، فشباب العالم مقدمون على تصحر عجيب، فالمخترعات التقنية قفزت بالكون أشواطاً بعيدة، ولم تعد المجتمعات الاستهلاكية على اتفاق ثقافي ونفسي مع المستجدات ذات الأثر الفاعل على حياتهم.. وعادة تكون المجتمعات الاستهلاكية تابعة رغماً عنها، وتتشكل وتتغير سلوكياتها وفق معطى المنتج التقني..

والدول المنتجة توازت مجتمعاتها وفق ذلك المنتج؛ فتجد تناقضاً بين ثقافة المجتمع ومنتجاته وتحديداً في الجانب الاجتماعي، بينما ما يحدث للدول المستهلكة أن ثقافتها وسلوكها يكونان متأخرين جدّاً عن الأدوات التي يستخدمونها في حياتهم؛ بحيث تمثّل فجوة لا تتسق مع حياتهم مع المعطى التقني..

ماذا ستكون عليه المخترعات التقنية القادرة على صياغة حياة أخرى لها قيمها عند مستهلكيها؛ بمعنى أن أي مخترع هو تجريف لما سبقه من أداة وسلوك أيضاً.

لنترك للخيال فرصة لدى كل قارئ لكي يجيب: ماذا ستكون عليه الحياة بهذه الصيغة المتغيرة يومياً..؟

والقضية هنا هي تقنية ستغير النمط السلوكي خلال السنوات القادمة؛ أي أن ثقافة الدول المستهلكة ستجد نفسها أمام معضلة اجتماعية قاسية، إذ لم تصل ثقافتها إلى ما هو حادث تقنياً، ويزداد تخبطها، إذا لم يكن لديها حلول وقتية للمجابهة، وحلول مستقبلية لما تحمله التقنية من تغير ثقافي وسلوكي..

القضية عميقة وخطرة اجتماعياً، وإنسانياً، وكنوع من تطبيق القول مع الواقع، كنت أقرأ تقريراً عن العنوسة، وعن نسب الطلاق، وعن تأخر سن الزواج وعن العازفات عن الزواج، وجدت أننا فعلاً أمام أزمة اجتماعية لم تحل بالطرق التقليدية، ولن تحل بالتعددية، وهذا جانب واحد، أما التصحر الاجتماعي فله دائرة أعم وأشمل، وأعتقد أن القادم بحاجة إلى تأسيس فكرة لمجابهة التصحر العاطفي، الذي ينبئ أن ثمة عاصفة اجتماعية لم يتنبه لها أو تؤخذ لها الحدود التي من شأنها تجنيب المجتمع من ذلك التصحر العاطفي..

عفواً، هذا ليس بكاءً على اللبن المسكوب، بل محاولة لجمعه.