تصاعدت وتيرة التصريحات والتصريحات المضادة بين فرنسا وروسيا، وذلك على خلفية ما أعلنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أعقاب لقاء جمعه بداية الأسبوع الماضي بعدد من الزعماء الأوروبيين، إذ أكد «أن لا خطوط حمراء في دعم أوكرانيا، بما في ذلك إرسال قوات برية ميدانياً».
ورغم أن إعلان ماكرون لم يلقَ تجاوباً كبيراً في صفوف حلفائه الرئيسيين وخصوصاً لدى الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا، وهو إعلان جوبه كذلك برفض قوي من القوى السياسية الفرنسية، إلا أن هذا الإعلان جعل شبح الحرب يخيم من جديد على أوروبا التي خالت دُوَلُها أن الحروب أضحت من الماضي بعدما كانت مسرحاً لحربين كونيتين مدمرتين خلال القرن الماضي، فضلاً عن عديد الحروب البينية.
ويبدو أن المخاوف من اندلاع نزاع في أوروبا اشتدت بعد ردة الفعل الروسية على تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إذ لوح أولاً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باحتمال استعمال السلاح النووي، وشدد ثانياً الرئيس الروسي السابق ديمتري مدفيديف على أن بلاده «لم يعد لها خطوط حمراء (هي الأخرى) في خلافها مع فرنسا»، وهذا التصعيد الكلامي كانت له فيما يبدو تداعيات فعلية، إذ أشارت أصابع الاتهام الثلاثاء الماضي ضمنياً إلى مسؤولية جماعة أفريقية قريبة من روسيا بتنظيم هجمة إلكترونية غير مسبوقة على مواقع حكومية فرنسية، وتجدر الملاحظة إلى أن «المعركة» تخاض الآن في المجال الإعلامي من الجهتين في انتظار ما ستؤول إليه الأوضاع ميدانياً.
والثابت كذلك أنه ورغم كل التصريحات اللاحقة من الجانبين من أجل تدارك ما صار ونزع فتيل الأزمة، فإن الوضع بين الطرفين أضحى على مشارف الانفجار وأن المسألة هي مسألة وقت لا غير، بحسب المراقبين. ويتجه الرأي تبعاً لكل ما تقدم إلى أن الأزمة بين الطرفين قد تكون لها أسباب تتجاوز الأزمة الأوكرانية الروسية وتتجاوز المبررات القيمية التي تضمنها الخطاب الرسمي الفرنسي، وخصوصاً مسألة الدفاع عن القيم الديمقراطية في مواجهة ما تسميه فرنسا وعدد من الدول الأخرى الغربية، بـ«الاستبداد الروسي».
عديد من المراقبين يقدرون أن أسباب تحركات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون داخلية ومتعلقة بالاستحقاق الانتخابي الأوروبي المقبل، وهي لا تخلو كذلك من السعي إلى الريادة أوروبياً أمام تراجع محتمل للالتزام الأمريكي في الدفاع عن أوروبا، خصوصاً في حال فوز دونالد ترامب بالرئاسة نوفمبر القادم، وأيضاً في ضوء انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتراجع النفوذ الألماني.
وبالتمعن في حديث ماكرون عن «تهديد روسيا للمصالح الاستراتيجية الفرنسية» يزداد اليقين بأن دوافع التصعيد الخطابي للرئيس الفرنسي تتجاوز بالفعل مجرد الأزمة الأوكرانية لتطرح طبيعة العلاقة المتوترة بين الطرفين، خصوصاً في ما يخص مصالح البلدين في أفريقيا والساحل الأفريقي تحديداً، ومعلوم أن فرنسا تخسر مواقعها ومصالحها تباعاً في هذه المنطقة من العالم لصالح روسيا وبعض الدول الأخرى فيما يبدو، وبالطبع فإنه من الصعب على فرنسا القبول بخسارة مواقعها في مستعمراتها السابقة التي خضعت لنفوذها على مدى الأحقاب دون أن تفتح أمام هذه الدول سبل تنمية مستدامة تضمن كرامة هذه الشعوب، ما أدى إلى تمرد شعوب المنطقة ضد الوجود الفرنسي في عدد من الدول الأفريقية بالخصوص.
إن الحروب بين الدول هي مواصلة السياسة بطرق أخرى، وإن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي تطورت فيها آليات متعددة لفض النزاعات وابتدعت فيها آليات أخرى للردع الاستباقي مثل السلاح النووي، يبدو أنها وصلت إلى منتهاها، إذ لم تعد هذه الآليات قادرة على فرض الأمن والسلم الدوليين لاعتبارات متعلقة بالتغيير الجذري في موازين القوى بين الدول، وهو ما يشرع القول بأن «العالم مقبل على تغييرات جذرية حاملة لحروب أكيدة ولكنها أيضاً حاملة لآمال شعوب لم يعد لها ما تخسر غير قيودها»، هكذا لخص الحقوقي والمفكر التونسي سليم اللغماني الوضع الدولي الراهن: «نحن نعيش فترة تاريخية مؤسسة لتغيير جذري يفتح بعض الأمل» هكذا قال اللغماني، ونسأل نحن السؤال الضروري: هل أن طريق الأمل مفروش بالضرورة بالدماء والحروب؟ إن الإنسان يستحق معانقة الأمل دون المرور ضرورة بالحروب والموت.. هكذا نرى.
التعليقات