تملك الدول الكبرى في العالم محركات البحث الإلكترونية الخاصة بها، وتحظر بعض وسائل التواصل الاجتماعي عن أراضيها وهو ما يعتبر جزءاً من السيادة القومية ووحدة التراب الوطني لتك الأمم. وأصبح البعد الافتراضي بعداً متداخلاً وبقوة في مفاهيم السيادة الوطنية والحدود غير المرسومة والإرادة الوطنية للدول وهو ما يجب أن تتّنبه له دولنا العربية وتبدأ في فهم أن هذا البعد هو من سيكون العامل المؤثر في حفاظها على كيانها كدول، وكي لا تتعرض لنيران التكنولوجيا والاتصالات المتقدمة.

وعلى سبيل المثال تهيمن الصين وروسيا على المعلومات التي تتدفق لمواطنيها في الداخل، وبقدر ما يعتبره الغالبية عملاً غير ديمقراطي ومقيّداً للحريات هو إجراء ضروري للحفاظ على الأمن الشامل للدول وخاصةً في ظل نظم الحكم في تلك الدول وطبيعة وثقافة سكانها وعلمها يقيناً أنها تتعرض لغزو ثقافي ومعلوماتي سيجردها من أهم مقومات الدولة القوية القادرة على تصدير قيمها ومبادئها إلى الخارج بدلاً من أن تكون تحت النفوذ المعلوماتي بكل جوانبه وما يتعلق به من أمور اجتماعية وسلوكية وتشكيل قوى معارضة خفية قد تنفجر في أية لحظة لتغّير خريطة تلك الدول ومهما تقدمت تقنياً وصناعياً لطالما كانت مهزومة معلوماتياً فهي الطرف الأضعف في معادلة توازن القوى.

البنية التحتية التقنية الرقمية هي جانب آخر من النفوذ الرقمي، ونحن هنا لا نتحدث عن أن تكون الدولة ككل مستخدماً ومصنعاً لتجميع قطع غيار الصناعة التكنولوجية والبرمجة والشبكات المتقدمة والصناعات التي تقوم عليها تلك المنظومة، بل إن تكون منتجاً مبدعاً لتلك التكنولوجيا وكل ما يتعلق بها والإنتاج المتعلق بصناعة وسائل الاتصالات والتواصل الاجتماعي وشبكات وموارد وقدرات الربط والاستقلال الإلكتروني.

والأمر يتعلق أيضاً بصوامع النفوذ التي نشأت جراء ظهور طفرة المؤثرين الرقميين الذين يسعون إلى تشويش الواقع وجعل مواطنيهم مغيبين عنه وأن يتبنون ثقافة استهلاكية بحتة مقيدة لتقدم الأمم التي هي سوق لمنتجات الآخرين وليس العكس، وكونها تخضع دون أن تعلم لاستراتيجيات تأسيس الهيمنة المعلوماتية التي تتمتع بها الأنظمة العالمية للدول الأقوى على مستوى العالم، ومن لها تبعية لتلك الدول بطرق علنية وغير علنية وتعتبرها تلك الدول رابطاً بين الحضارات والثقافات، ولديها من البعد التاريخي والزاد البشري والثقافي والروحي والثروات بما يكفي لأن تكون لاعباً مؤثراً في النظم الإقليمية، وبالتالي في النظام العالمي الذي أصبح عالماً بلا أقطاب.

من جهة أخرى من الصعب أن يميز الفرد اليوم بين الحقيقة والخيال وبين الصدق والكذب، وبالتالي يترك نفسه عرضةً للتأثر ليشكل بعدها التحيزات التي يتم غرسها في عقله سواء كان فرداً أو مؤسسةً أو مجتمعاً أو حكومةً من خلال الاستفادة من عمليات التأثير الرقمي المقترنة بوسائل التواصل الاجتماعي، مما يؤدي إلى زيادة عدم اليقين وعدم الثقة والعداء الأعمى، والمزيد من التطرّف أقصى الشمال أو اليمين وانتشار الإيمان بأشياء وقناعات ليست صحيحة بكل بساطة.

ومع التطور الذي سيشهده الذكاء الاصطناعي التوليدي والأجيال القادمة من منتجات الذكاء الاصطناعي وهو بحد ذاته مسمى مضلل للتلاعب بالقرارات المستندة إلى الذكاء الاصطناعي وكأن من يستخدمه لا يعلم أنه تنظيم للبيانات والمعلومات والخوارزميات التي تعكس توجه الإنسان الذي يقف خلفها، ومن الممكن أن يوجهها كيفما شاء على الأقل في الوقت الحاضر للتأثير على الآخرين والمجتمع المتلقّي الذي لا يعلم البوابات السرية لتلك التقنيات. وهكذا يتم التحكم بالشعوب غير الواعية التي لا تعلم أنه يمكن التلاعب بتحيز الطلاقة المعرفية والصدق لتشكيل الساحة الاجتماعية والسياسية، وتوسيع نطاق سوء الاستخدام المحتمل لنماذج اللغة التي يحركها الذكاء الاصطناعي في عمليات المعلومات الخبيثة، وحملات التصيد الاحتيالي واسعة النطاق ووسائل الإعلام المزيفة التي يمكن تصديقها بشكل متزايد وهو ما يعطي المعلومات الخاطئة صورةً خادعة من المصداقية مما يساهم في زعزعة استقرار الأنظمة السياسية والتماسك المجتمعي في الدول المستهدفة.