لا شيء يبرر قيام أجهزة الأمن الملحقة والقضاء المعلّب بمحاولة مضايقة الأستاذ الجامعي الدكتور مكرم رباح رداً على مواقفه الجريئة ضد "حزب الله". وكل البنود التي أدرجت في أسباب التحقيق واطلعنا عليها تزيدنا قناعة بأن الملاحقة اعتباطية. وهي تهدف الى التضييق على حرية الرأي المعارض لـ"حزب الله" ومحور الممانعة في لبنان. طبعاً لم تردنا مواقف الشجب من أي ركن من أركان الطاقم الحاكم المتواطئ مع الحزب المذكور. فالطبيعي أننا أمام حالة شاذة يمثلها هذا الاستسلام التام للطاقم الحكم من الحكومة الى معظم مجلس النواب وصولاً الى العديد من القيادات التي تعرف أن مواقف الدكتور رباح تعكس رأياً عاماً، واسعاً، وعابراً للطوائف، والأحزاب.

في مطلق الأحوال، من المهم أن يدرك الرأي العام اللبناني أن لبنان يحتاج أكثر ما يحتاج الى الأصوات الوطنية الشجاعة التي لا تساوم على البلد، ولا تخشى السلاح غير الشرعي، ولا التواطؤ والارتهان في رحم السلطات الدستورية. طبعاً لم نكن نخشى خوض معركة رأي عام ضد هؤلاء المتواطئين ضد الدستور، وفكرة الدولة والقانون. لكن كان لافتة هذه الجرأة في التعرّض لمثقفين بسبب آرائهم ومواقفهم السياسية. ومع ذلك يمكن القول إن ثمة جبهة حريات عامة وخاصة لا تزال قوية ومتوثبة، وجاهزة للتصدي لكل اعتداء أمني الطابع بواجهة قضائية باتت مفضوحة. لهذا كله نقول إن المبالغة في استخدام القضاء، ولا سيما القضاء العسكري الذي تمثل صلاحياته إشكالية كبرى في البلاد ستزيد الشرخ بين الحزب المذكور المعني مباشرة بهذا القضاء وسائر شرائح المجتمع اللبناني الذاهبة شيئاً فشيئاً نحو طلاق وطني مع الحالة الشاذة والسلاح غير الشرعي.

بالانتقال الى الأزمة الكبيرة التي تمثلها احتمالات الانجرار الى حرب واسعة بين إسرائيل و"حزب الله"، لا بد من القول إن مواقف لبنان الرسمي التي تزعم التمسك بالقرار ١٧٠١ فارغة من محتواها. فمن بادر الى إقحام لبنان في حرب استنزاف إقليمية هو "حزب الله" الرافض حتى الآن أن يتراجع عن أخطائه، والمستوى السياسي في الجدولة اللبنانية يقوم بمحاولة منح الحزب المذكور غطاء الشرعية اللبنانية. لكن مشكلة هذه الشرعية أنها منقوصة، لأنها مستتبعة ويكاد المواطن اللبناني الحر يقول إنها واجهة لحالة احتلالية جديدة ورثت الوصاية الاحتلالية السورية. من هنا من المهم أن يدرك النظام العربي الرسمي ومعه المجتمع الدولي أن ثمة أقلية في لبنان تتحكم بمصير الأغلبية، وتستقوي بقدرتها على ممارسة العنف ضد اللبنانيين من أجل إخضاعهم. ومن المهم أيضاً أن يدرك العرب والعالم أن لا دولة اليوم في لبنان، ولا حكم وحكومة، ولا حتى شرعية حقيقية. فالمؤسسات متحللة، والسلطة أسيرة الأطماع والطموحات الصغيرة أداة طيّعة بيد الطرف المستكبر.

خشيتنا أن تستمر المقامرة بأمن لبنان ومصيره خدمة لـ"وحدة الساحات" فينتهي الأمر بتدمير البلاد مرة جديدة، أو أقله بتدمير فكرة لبنان الواحد ولا سيما أن بيئات لبنانية أصيلة تتحدث بصوت عالٍ وبصرحة تامة عن استحالة التعايش مع الحالة التي يمثلها "الثنائي" عموماً و"حزب الله" خصوصاً. هذه هي الحقيقة المُرّة. فلقد أصبح مشروع الميليشيا في واد، وملايين اللبنانيين في وادٍ آخر. حان الوقت لقول الحقيقة كما هي.