هناك عدة (مداخل) ممكنة مختلفة ومبسطة، تساعد على فهم (السياسة)، أو بعض جزئياتها.. ومن ذلك السياسة الخارجية لأي دولة بصفة عامة. ومن ضمن هذه المداخل اعتماد تعريف (السياسة الخارجية) -لأي دولة- بأنها: «الأهداف التي تسعى تلك الدولة لتحقيقها خارج حدودها، أو تجاه جزء أجنبي معين من العالم، و(الوسائل الاستراتيجية) التي تتبعها.. لتحقيق تلك الأهداف».

لذا، فعندما نحاول معرفة السياسة الخارجية لدولة ما معينة تجاه جهة، أو منطقة، خارج حدودها، فإنه يمكن تلمُّس (الأهداف) المبتغاة، و(الوسائل) المتبعة، للوصول إليها. ومجموع ذلك هو: سياسة تلك الدولة نحو الجهة/‏ ‏القضية المعنية. وكثيراً ما يكون هناك تداخل بين الأهداف والوسائل.. مما يجعل من الصعب أحياناً التمييز بين الغاية والوسيلة. هذا المدخل يمكن أن يستخدم في محاولة فهم أي سياسة خارجية لأي دولة، في أي وقت؛ ففهم هذه السياسة، أو تلك، يسهل معرفة كيف يمكن تعظيم إيجابياتها -إن وجدت- وتقليص سلبياتها الضارة.

ولا شك، أن فهم الخطوط العامة للسياسة الخارجية الأمريكية يعتبر أمراً مهماً، لكون هذه الدولة هي إحدى الدول العظمى، التي تؤثر سياساتها (إيجاباً وسلباً) في كل أرجاء الكرة الأرضية. وهناك مداخل ممكنة، صممت لفهم أهم ملامح السياسة الخارجية، وحتى الداخلية للدول المختلفة، ومنها الدولة العظمى الحالية؛ الولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها. ومن ضمن (المداخل) المقترحة الممكنة لفهم هذه السياسة بخاصة، المدخل الذي اقترحه عالم السياسة الأمريكي الشهير (والتر رسل مييد)، وسوف نوجز فيما يلي مقترح (مييد) هذا، وكيفية استخدامه لفهم أهم ملامح السياسة الأمريكية، الداخلية والخارجية، في وقت محدد، وتوجهات هذه السياسة.

****

يعتبر البروفيسور (والتر رسل مييد) من أشهر علماء السياسة المعاصرين الأمريكيين، ومن أكثرهم تأثيراً لدى صنّاع القرار الأمريكي، وهو من مواليد عام 1952م، وأصبح أستاذاً للعلوم الإنسانية والعلاقات الدولية في عدة جامعات أمريكية، منها جامعة (ييل)، وله عدة كتب وأبحاث ومقالات منشورة؛ من ذلك: كتابه (السياسة الخارجية الأمريكية، وكيف غيرت العالم؟) الصادر عام 2001م، الذي حظي بانتشار واسع، وترجم لعدة لغات، ونال عدة جوائز.

في هذا الكتاب، يرى (مييد) أنه يمكن حصر توجهات السياسة الخارجية الأمريكية بخاصة، عبر تاريخها، في أربعة توجهات (سياسية - عقائدية) رئيسة. وأن لكل اتجاه من هذه التوجهات الأربعة مضمونه، وفلسفته، ورائده وفيلسوفه من الرؤساء الأمريكيين الأوائل. لذلك، سمى كل توجه باسم رائده الأول -في رأيه-؛ أي باسم أول رئيس أمريكي اختط هذا التوجه، وتبعه بعض من أتى بعده من الرؤساء.

****

لذا، أصبح هناك، في كل فترة توجه معين، له عناصره ومبادؤه وأهدافه ووسائله، ويحمل مسمى رائده الأول، وذلك على النحو التالي:

- الجيفرسونية ( ـJeffersonian/‏‏Jeffersonism): ويعرف هذا التوجه بـ(المدرسة الانعزالية)، وتعني: التركيز على خدمة وتقوية أمريكا، أولاً وأخيراً، وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وفرض قيم معينة عليها.

وينسب هذا التوجه إلى الرئيس توماس جيفرسون (1743-1826م). وهو أحد الآباء المؤسسين، وكاتب إعلان الاستقلال، وثالث رئيس للولايات المتحدة، ومن مؤسسي الحزب الديمقراطي.

- الهاملتونية (Hamiltonian): ويشار لهذا التوجه بـ(المبدأ النفعي)، وهو يعني: التركيز على الاقتصاد والمال، واعتبار التجارة، والنجاح فيها، السبب الرئيس في قوة الدولة. وذلك يستوجب أن تحافظ أمريكا على تفوقها التجاري، وتحميه، من خلال جيشها، وأسطولها البحري القوي، وإقامة التحالفات التي تضمن هذا التفوق. ومؤسسه هو أليكساندر هاملتون (1757- 1804م)؛ وهو أيضا أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، ومفسر الدستور الأمريكي، وهو أول وزير مالية أمريكي، وكان المسؤول الرئيس عن السياسة الاقتصادية في إدارة الرئيس جورج واشنطن.

- الجاكسونية (Jacksonian ): يرفض هذا التوجه كلاً من الهاملتونية والجيفرسونية. ويدعو لانعزال أمريكا، وتركيز حكومتها على المواطن الأمريكي (وخاصة الأبيض البروتستانت WASP). ويقف ضد الهجرة. ويدعو لاستخدام القوة عند تعرض الأمن القومي الأمريكي لأي تهديد خطير. وينسب إلى الرئيس أندرو جاكسون (1767-1845م). وهو الرئيس السابع للولايات المتحدة، ولفترتين، من 1829 إلى 1837م. وهو من الحزب الديمقراطي.

-الويلسونية (Wilsonian): وملخص مضمون هذا التوجه هو: دعوته للتركيز على (القيم) النبيلة، وخاصة الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويدعو لنشر قيم الديمقراطية خارج الحدود، وعدم الاكتفاء بدعمها في الداخل الأمريكي، وذلك عبر تقوية الذات، وإقامة تحالفات مع القوى التي تشارك أمريكا هذه القيم، وكذلك عبر إقامة منظمات دولية، هدفها الرئيس هو دعم هذه القيم.

وينسب هذا الاتجاه إلى توماس ودرو ويلسون (1856- 1924م). وهو الرئيس الثامن والعشرون للولايات المتحدة.

****

وتعليقا على رؤية (والتر مييد) هذه، نقول: إن المراقب للسياسة الخارجية الأمريكية، خاصة في العقود السبعة الأخيرة، يلاحظ أن هناك توجهات سياسية- عقائدية أخرى في هذه السياسة، يمكن حصرها، وتعيينها، في (مداخل) أخرى، يأتي في مقدمتها، كما نعتقد، التوجه الصهيوني، كما سنوضح في مقالنا القادم.