في شهر رمضان الكريم من كل عام، تزدهر الأعمال الدرامية، ويزداد عددها بدرجة كبيرة، وباستثناء الأعمال التاريخية، ستكون «السوشيال ميديا» وطاقتها الفريدة والمتجددة، قاسماً مشتركاً في هذه الأعمال، وعاملاً جوهرياً في تحريك أحداثها، وصناعة المغزى الذي يريده صُنّاع الدراما.

وإذا جرى الاتفاق على أن كثيراً مما نشاهده في المسلسلات الاجتماعية إنما يعكس قدراً من الواقع، ويعبِّر عنه بصورة أو بأخرى، فإن تحليل الأعمال الدرامية العربية التي تُعرض في الموسم الحالي، يشير بوضوح إلى أن «السوشيال ميديا» تتحول باطراد من «متغير تابع» في التفاعلات الاجتماعية إلى «متغير مستقل».

لقد أضحت «السوشيال ميديا»، بروافدها المتعددة، قادرة على إلهام صُنّاع الأعمال الدرامية بحبكات اجتماعية لم يكونوا قادرين على مقاربتها قبل انبلاج عهدها وتطورها وتغولها إلى الحد الذي باتت عليه.

وسيكون السبب في ذلك أنها تحوّلت من مجرد أداة اتصال وتفاعل وعرض محتوى إلى وسيلة للكسب المادي المباشر من جانب، وطريقة لصناعة المكانة الاجتماعية أو تطويرها من جانب آخر.

لا توجد مشكلة بالطبع في تحول وسائل الإعلام الشبكية الجديدة تلك إلى وسيلة لجني الأموال، لكن ديناميات تلك الشبكات الجديدة تربط باطراد بين تحقيق الكسب المالي من جهة، والاتجار بالخصوصية، واختلاق السلوك الحاد من جهة أخرى.

ولا توجد مشكلة أيضاً في أن يكون الوسط الإعلامي السائد ساحة مفتوحة لإدراك المكانة الاجتماعية أو تطويرها، إذ كان ذلك دأب وسائل الإعلام «التقليدية» وديدنها منذ عقود طويلة؛ لكن الشروط والقيود التي ترسيها تلك الوسائل، في هذا الصدد، ظلت تكسبها درجة مناسبة من المعيارية والقابلية للمراجعة والضبط.

لقد بات مستقراً لدى قطاع كبير من باحثي الاتصال والاجتماع أن «كل تقنية اتصالية جديدة تُنشئ آليات جديدة للشهرة والتأثير وصناعة المكانة»؛ وهو الأمر الذي يعني أن عالم الشبكات الاجتماعية صنع بدوره طريقته الخاصة لتحقيق المكانة وتطويرها، لكن للأسف الشديد، فإن تلك الطريقة لا تتحلى بالقدر اللازم من الرشد والإنصاف.

سيظهر ذلك بوضوح في أحداث مسلسل «أعلى نسبة مشاهدة» المصري، الذي يُعرض في الموسم الرمضاني الحالي، ومن خلاله سيتأكد لنا أن «السوشيال ميديا» أضحت بطلاً في الحياة الاجتماعية للأسرة المصرية، وأنها قادرة، في بعض تجلياتها السيئة، على تغيير حياة تلك الأسرة، وكذلك الإطاحة بمصائر أفرادها.

في ذلك العمل سنتعرف إلى عائلة من الشرائح الدنيا في الطبقة الوسطى، يُرهقها العوز، وتعصف بها الاضطرابات القيمية وقلة الحيلة، وقد نادت «السوشيال ميديا» على أختين شابتين فيها، فجذبتهما إلى عالمها، مدفوعتين برغبة عارمة في تحقيق الربح المادي، وصناعة الشهرة والمكانة، من دون أدوات موضوعية كافية لإدراك هذا الهدف.

وعلى غرار «أسطورة فاوست» الشهيرة، فإن الشخص الذي يعقد «صفقة مع الشيطان»، سيحصل عادة على ما يبتغيه من مكاسب «دنيوية» مثل السلطة أو المال أو الشهرة، لكنه في المقابل سيخسر روحه، في ارتباط لن يكون بوسعه فضه، ما دام قد قَبِلَ «الهدايا السخية»، التي ستأتيه من دون منطق، أو استحقاق، أو تعب.

استفاد صُنّاع «أعلى نسبة مشاهدة» من سيل لا ينقطع من الأنباء والحكايات عن أبطال هذه الصفقة مع «السوشيال ميديا»، وهم رجال ونساء وجدوا أن بإمكانهم استغلال طاقتها الفريدة، وغير المنطقية في كثير من الأحيان، لتجاوز واقعهم المادي والتمتع بمكانة، لم يكن بمقدورهم إدراكها أبداً ضمن شروط الصعود الاجتماعي التقليدية.

ولهذا، ستتردد على لسان الأخت الكبرى عبارة: «أردت أن أحصل على المال لسد عوز العائلة، وحمايتها من التشريد والإذلال»، كما ستتردد على لسان الأخت الصغرى عبارة: «أريد أن أكون مشهورة، وأن أنعم بالمال الوفير».

ثمة كثير من الجوانب الاجتماعية والفنية التي تعامل معها صُنّاع «أعلى نسبة مشاهدة» بذكاء واحترافية، وهو أمر أثمر عملاً يستحق المشاهدة والإعجاب، لكن ما يعنينا في هذه السطور من تلك الجوانب، ما يتصل بتسليط الأضواء الكاشفة على العوار الاجتماعي الذي أحدثته تلك الوسائط الجديدة، عبر قدرتها على تقويض قيم ومعانٍ أساسية في المجتمع.

فقد دخلت الأختان الصفقة مع «السوشيال ميديا»، وحصلتا على العائد بنسب متفاوتة، لكن لاحقاً سيحل دورهما في الوفاء بالمقابل، وسيتوجب عليهما دفع الثمن، وهو ثمن قاسٍ ومروع؛ وفي ذروة قسوته تلك سيسلب روحهما، أو سيمسخهما، كما أنه سيُقوض أمانهما العائلي.

تلك الوسائط الجديدة التي اجترحت فرصاً جديدة لشتى طبقات المجتمع ظهرت لها أنياب حادة، وكشفت عن نزعة مُدمرة في بعض جوانبها؛ وهو أمر يتطلب البحث عن سبل لعقلنتها، وترشيد دينامياتها.