في مقالةٍ سابقة على صفحات «الخليج»، بينتُ أنّ «لعبة الإخوان العربية» بانت معالمها من قديم، «وتتمثل في إشاعة الفوضى والانقسام في المجتمعات وبينها؛ فذلك هو الشرط الأساسي لزيادة نفوذهم السياسي وصعودهم إلى السلطة».
ومن المفارقات أن السبب الذي دعاني لكتابة هذا المقال في أواخر رمضان من العام الماضي كان انفعالاً بحدثٍ أحدثه «الإخوان»، ويتعلق بفتوى القطب الإخواني الصادق الغرياني آنذاك بشأن تتمة شهر رمضان الكريم وبدء أيام عيد الفطر المبارك، في الساحة الليبية، الذي علقت عليه صحيفة «الغارديان» البريطانية بأنه مظهر من مظاهر الانقسام الذي وصل إلى حد الجنون.
وها أنا ذا أعود إلى «لعبة الإخوان العربية» بحدث ليبي، ويتمثل في إفطار درنة الذي دعت إليه القيادة العامة للقوات المسلحة الليبية (شرق) ومجلس النواب، وحضره رئيس المجلس عقيلة صالح، ومدير صندوق إعادة إعمار درنة، بلقاسم، نجل قائد الجيش الوطني الليبي، المشير خليفة حفتر، وعدد من أعضاء المجلس الأعلى للدولة، بما في ذلك شخصيات من تنظيم «الإخوان المسلمين»، على رأسهم منصور الحصادي، عضو المجلس الأعلى، الذي أثارت المصافحة بينه وبين بلقاسم حفتر جدلاً واسعاً في الساحة الليبية.
وقد تباينت ردود الأفعال الليبية وغير الليبية للقاء «درنة» بين خصوم الأمس القريب. ومن المفارقة أنه لأول مرة تتفق حكومتا الشرق، برئاسة أسامة حمّاد، والغرب، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، على شيء، وهو انتقاد اللقاء، ففي الشرق، تصدرت عبارة «قيادي (إخواني) بارز في ضيافة نجل حفتر» عناوين الأخبار والتعليقات الواردة على صورة مصافحة بلقاسم حفتر لمنصور الحصادي. وعمد بعض النشطاء هناك إلى وضع مقاطع مصورة للحصادي، وهو يشنّ هجوماً عنيفاً سابقاً على «الجيش الوطني الليبي» ويحرض على قتاله.
أما الدبيبة، فقد شنّ هجوماَ لاذعاً على لقاء درنة، مؤكداً أن من كانوا «يدّعون الخصومة في الشاشات تحالفوا اليوم من أجل المال والاستمرار في الحكم، وأنّ العسكر (يقصد الجيش الوطني الليبي) والإخوان يعملون بقلب رجل واحد لاقتسام السلطة وتعطيل الانتخابات». واستنتج الدبيبة، في كلمة ألقاها مساء الثلاثاء الموافق 2 إبريل/ نيسان الجاري، أن هذه التحركات الجديدة بين الإخوان والجيش ومجلس النواب تؤكد صواب موقفه المتمثل في عدم السماح بمرحلةٍ انتقالية أخرى تتضمن تشكيل حكومة توافقية تشرف على الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة، وأنّ حكومته مستمرة في أداء عملها حتى التسليم لسلطة منتخبة. وهكذا تمت العودة تقريباً إلى المربع صفر في الانقسام السياسي المرير في الساحة الليبية، بعد أن تناقلت الأنباء خلال شهر مارس/آذار، اتفاق عدد من الأطراف الرئيسية، بما في ذلك رئيسا مجلسي النواب والأعلى للدولة وعدد من أعضاء المجلسين، على تشكيل حكومة جديدة تشرف على الانتخابات المقبلة، ومن ثم إنهاء ولاية حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة.
وعلى نفس المنوال، جاءت تعليقات المعلقين والناشطين والمحللين الليبيين، فمنهم من يرى أنّ لقاء درنة يدشّن مصالحة أو وفاقاً بين أطراف أساسية في الأزمة الليبية المركبة، وهما مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة والجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر، تمهيداً للمصالحة الليبية بين كافة أطراف الأزمة، استعداداً لتشكيل حكومة توافق وطني تشرف على الانتخابات المقبلة. وكما عبر بعضهم، كان الإفطار وزيارة المجلس الأعلى للدولة لدرنة «جسراً للمصالحة وسداً لأي ثغرة قد تعود بالبلاد للاحتراب». ومن المعلقين الليبيين مَن قلل من أهمية زيارة شخصيات إخوانية ولقائهم بالقيادات السياسية والعسكرية في الشرق؛ نظراً لانتماء الأخيرين للحزب الديمقراطي خليفة حزب البناء والتنمية الإخواني بقيادة محمد صوان، «المعروف بمواقفه المتماهية مع قيادات الشرق منذ سنوات قليلة». ومنهم من رأى أنّ لقاء درنة يُسهم في زيادة الانقسام السياسي، ويُعطل الانفراجة السياسية المأمولة؛ إذ إنه دليل على إعادة هيكلة الاستقطاب السياسي في الساحة الليبية مع زيادة درجته.
والأرجح أنّ الإخوان ينخرطون في لعبةٍ جديدةٍ، تبدو أهم ملامحها في الانقلاب على حليفهم الدبيبة، ويتجهون للتحالف مع معسكر الشرق بقيادة خليفة حفتر وربما عقيلة صالح؛ لأنهم يستشعرون بعقليتهم البراجماتية أنّ اتجاه التطورات «والضغوط الدولية والإقليمية»، التي قد تدفع إلى تشكيل حكومة توافق وطني تمهيداً للانتخابات، تُملي عليهم نبذ الحليف القديم والتحالف مع ما كانوا يصورونهم على أنهم أعداء الأمس. ولا خلاف في إعادة تشكيل التحالفات بين القوى السياسية في أي نظامٍ سياسي، بل إنّ هذه من طبائع الأمور، ولكنّ المشكلة في الساحة الليبية التي لم تعتد على هذا النوع من التحالفات أنه يعيد الانقسام السياسي المزمن إلى المربع الأول، كما رأينا.
المشكلة في الحالة الليبية أن الإخوان يستغلون حالة الانقسام السياسي ويقدمون أنفسهم أو تنظيمهم الجديد «الحزب الديمقراطي» على أنه القوة السياسية الأولى في البلاد، ويتطلعون إلى الهيمنة على البلاد والعباد من جديد؛ ومن ثم يعبّدون الطريق لاستمرارية الأزمة الليبية.
أسأل الله أن يحفظ ليبيا وأهلها من شر كل ذي شر وأن يوحّد كلمتهم لما فيه الخير.
* متخصص في العلاقات الدولية والقضايا الجيوسياسية
التعليقات