أكثر ما تحتاجه الدول للوقوف على صلابة بنيانها الداخلي هو الأزمات والطوارئ، لأنها تمثل اختباراً مفاجئاً لاتحاد المكونات ووعي الأفراد وانتمائهم بالحكم الدقيق على ردود أفعالهم العفوية وهبّاتهم غير المحفوفة برغبة في الاستعراض أو نيل مقابل، واستعداد كل منهم للتضحية في سبيل الجماعة، والرضا باقتسام الخطر مع الآخرين، وبذل كل جهد ممكن لإبعاده أو التقليل من آثاره.

الأزمات، خاصة تلك التي تتجاوز في تأثيراتها حدود المتوقع وتربك تداعياتها أحدث الدراسات والخطط، وغالباً ما يتعلق ذلك بالأمور المناخية، هي اختبارات مُحكمة لوحدة المجتمعات وقدرة أفرادها على التعالي على الذاتي والأناني من الاحتياجات، وتخليهم عن صور الرفاه، والألقاب والمكانة الاجتماعية والوظيفية؛ لاقتناص نجاة جماعية.

وفي هذا مزيد من العافية الاجتماعية التي تصلح زاداً للمستقبل، ولو كان مصدرها لحظة قلق عابر ستكون في خانة الذكريات التي تقف حين الحاجة شاهداً أميناً على متانة المجتمع، خاصة إذا كان متنوع المكونات ومستهدفاً، واصطفافه الواعي أمام رياح العبث وشياطين تركب الأمواج الطارئة، فتغرق وحدها.

قيمة الأزمات في حياة الدول أنها اختبار مكثف ومتعدد المحاور لقدرة القيادة على اتخاذ القرار في غيبة اطمئنان الأفراد ووقوع البعض فريسةً للهلع، وهو مبرر أحياناً بحكم طبيعة البشر، وتفكير البعض اللحظي في الخلاص الفردي. وكل هذه الأعراض تتبدد باسترجاع جوهر علاقة القيادة، بكل مستوياتها، بمن أؤتمنت على تفاصيلهم وأرواحهم، فلم تفرط في أيّها يوماً، والإيمان بقدرتها على التفكير في كل الاتجاهات والتحسب لكل الاحتياجات من رغيف الخبز اللازم لكل فرد، وحبة الدواء لمن يستعين بها على مرضه، إلى إشاعة روح الأمن الجماعي المؤسَس على الحقائق، لا الدعاية الرخيصة، وعلى الثقة في صلابة المجتمع وصواب حساباته، وقدرته على التمسك بوحدته، ولو في عز الأزمة.

إن المجتمعات الصلبة تتميز بالبصيرة وهي في قلب الأزمة، تعلن الحد الأدنى من المطالب لتحافظ على أرواح الأفراد، تضحي بالممتلكات، وكلها قابلة للتعويض، لكنها لا تقبل مساساً بحدود وحدتها ومصيرها المشترك المحمي بخريطة محصنة بماضيها وحاضرها ومستقبلها، بحنوّها في كل وقت على الإنسان، سواء المنتمي إليها بالجنسية، أو الروح المقيمة، أو القلب الذي زار فأحبّ أو ينتظر الزيارة.

الأزمات فوق أنها اختبار للمتانة الاجتماعية، هي كذلك لمكانة الدول ومداهمة كاشفة للمتربصين الذين لا يوفرون فرصة لمحاولة التسلل وقت الانشغال بالطارئ والمفاجئ، أو القفز فوق أسوار عالية، لكنهم، كحالهم في كل وقت، يقعون في ساحة بيت متوحد قوي البنيان يغرقهم ويعرّي نواياهم.

هذه المكانة لا تتأسس يوماً على الانشغال بالداخل، ولا الانكفاء على الذات، بل يداها ممدودتان في وقت واحد إلى أهلها، وأشقائهم في مناطق الأزمات، وأصدقائهم في بؤر الخطر، وكل إنسان يصارع خطراً، مهما كان انتماؤه. وكل هؤلاء ألسنة حق تشوي وجوه الفتنة والقسمة ولصوص الجماعات المنبوذة.